هناك تساؤلات عدة في الآونة الأخيرة عن فاعلية الدور الأوروبي في الساحة الدولية، ووصل الأمر أحياناً إلى الحديث عن عدم جدوى المشروع الأوروبي كلياً.
ومن الواضح لأي متابع لأوروبا الآن، أن القارة العجوز فعلاً عجوز، وفي مرحلة إعادة تشكيل هويتها، إذ لازالت تسعى لتحقيق توافق مؤسسي أوروبي بين من كان طرفاً في السوق الأوروبية ومن ظل في غرب القارة خارج مؤسساتها رسمياً لاعتبارات وطنية وفلسفية، على الرغم من قبول كثير من القواعد المتفق عليها لضمان تداول وتبادل السلع والخدمات وخلق أسواق متجانسة ومغرية لبعضها بعضاً. كما واجه “الفكر الأوروبي” تحدياً فلسفياً بعد ضم عدد من دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي، بما لديها من مفاهيم وتجارب مختلفة لأسلوب الحكم والعلاقات المجتمعية، تجعلها أقل تحمساً للمنظومات متعددة الأطراف، وهي مفاهيم بدأت الآن تظهر على السطح بعد شهر عسل في السنوات الأولى بعد انهيار حزب وارسو.
وبالتوازي مع التحولات السياسية التي شهدتها أوروبا، وجدنا تغيرات عدة في المناصب السياسية القيادية، تراوحت بين التوجه يساراً بتنامي الأحزاب المعنية بالبيئة وغيرها، وأخرى توجهاتها يمينية تستجيب وتغذي النبرة الوطنية الانعزالية، خصوصاً مع ظهور تحدي التعامل مع تدفقات جديدة ومتكررة من اللاجئين. شهدنا هذا وذاك، وإنما السمة الظاهرة والجامعة أوروبياً كانت اختفاء الزعماء الكبار وتركيز القيادات السياسية الأوروبية على التعامل مع القضايا الآنية اليومية للمواطن، حتى على حساب النظرة الأوسع والأشمل الأكثر استراتيجية والمتعددة الجوانب. فدخلت القارة عصر الإدارة والتعاقدات قصيرة الأجل على حساب عصر المفكرين والسياسيين أصحاب التطلعات والرؤى، وهو تحول شهدناه أيضاً على مستوى العالم.
ظل العالم لسنوات طويلة ينظر إلى ألمانيا وفرنسا عندما يريد معرفة توجهات السياسات الأوروبية وطموحاتها وحدودها، كان لمستشاري ألمانيا من بسمارك وأديناور وبراندت وكول ولرؤساء فرنسا من بونابارت وديغول وميتران وشيراك دور مهم في مرحلة تشكيل الرؤى الأوروبية، وضبط الإيقاع بين التنافس والتوترات، وتجنب الصدامات وتأمين الانفراجة خلال الحرب الباردة بين القطبين الغربي والشرقي. وشمل الاهتمام الدولي بين الحين والآخر كذلك الموقف البريطاني، وإن كان ذلك أساساً باعتبارها قوة كبرى، تعد أوروبية جغرافياً، وإنما لها توجهات أقرب إلى الولايات المتحدة عبر الأطلنطي، والسؤال الآن هل تقود الدولتان التوجهات المستقبلية وإلى أين؟
كانت لي فرصة الالتقاء بالرئيس إيمانويل ماكرون خلال ندوة إعلامية في جامعة العلوم السياسية في العاصمة الفرنسية منذ سنوات، قبل إعلانه الترشح للرئاسة بأسبوع أو أكثر من ذلك بقليل. والحقيقة لم أرتح لمداخلاته الشعبوية الانتخابية حينذاك، وإنما تغير رأيي فيه سريعاً وأصبح أكثر إيجابية بعد انتخابه، مع طرحه لعدد من القضايا المهمة الكبرى حول الدور السياسي والأمني الأوروبي، منها دعوته لضرورة المراجعة والتقويم الدولي للممارسات في عصر العولمة، غير أنني في الآونة الأخيرة استغربت لعدم واقعية بعض مبادراته حول الوضع في سوريا، ثم لبنان. وعليه فوجوده يوفر العزيمة على رأس المنظومة الفرنسية وهو تطور إيجابي، وإنما هو حراك يحتاج لمزيد من التجربة والحكمة.
وقد تابع العالم بترقب انتهاء مرحلة أنغيلا ميركل في ألمانيا بعد 16 عاماً، وفتحت نتيجة الانتخابات الباب إلى المستقبل بمزيج من التواصل والاستقرار والابتكار، مع اختيار أولاف شولتز مستشاراً جديداً لألمانيا، وتشكيل حكومة ائتلافية في ألمانيا من الحزب الاشتراكي الديمقراطي والديمقراطي الحر والخضر، وهي المرة الأولى التي تتألف فيها هذه التكتلات والأحزاب مع بعضها بعضاً.
شولتز من محافظي حزبه الاشتراكي الديمقراطي يحمل خبرة إدارية وتوافقية كبيرة، ويعد مؤيداً وداعماً للتوافق المجتمعي الديمقراطي، وله قناعات بأهمية أوروبا، وكذلك بالنسبة إلى العلاقات مع الولايات المتحدة. ويؤمن بأهمية الدور الألماني في عصر العولمة وضرورة تحديث اقتصاد السوق، يراعي تحديات الطبقات الأقل قدرة على التعامل مع تحديات السوق ومنافساته، وهو ما ركز عليه في طرح مبادئ سبعة تحكم السياسات الألمانية عرضها بالتفصيل في كتاب نشره عام 2017.
التقدير الأول هو أن شولتز سيواصل النهج البراغماتي الحذر لميركل، وقد يكون كذلك، وإنما يعكس الاتفاق الذي وقع بين الأطراف المتألفة توجهاً أكثر نشاطاً وعزماً مما مضى، في ما يسمى “الوسط السياسي التقدمي”، وذلك على الرغم من التحديات القائمة وعلى رأسها جائحة “كوفيد” وتداعياتها، وهي وثيقة تعكس ثقة وتطلعات، ستذكر كثيرين بطرح المستشار ويلي براندت عام 1969، عندما ناشد ألمانيا وتحداها أن تقبل “بدرجات أكبر من الديمقراطية”.
وفي هذا السياق، يفتح الاتفاق الباب لمزيد من المرونة في ما يتعلق بالسياسات الألمانية المحافظة، بالنسبة إلى المديونية، وتحديث منظومة الأمن الاجتماعي، وتحقيق مزيد من الدعم لغير القادرين، وبالتوازي مع هذا شمل خطوات جريئة في مجال البيئة، وتحديث المنظومة الاقتصادية والموقف من المهاجرين واللاجئين.
ومن المؤشرات الخارجية المهمة تأكيد الاتفاق على الالتزام بالمشروع الأوروبي ومؤسساته، وكذلك بالحلف الأطلنطي، مع مواقف أكثر حدة من السياسات الخارجية للصين، وأكثر حذراً من روسيا، بما في ذلك من مشروع الطاقة مع روسيا السيل الشمالي 2.
بداية ألمانية مثيرة للاهتمام مع توجه أكثر نشاطاً سينعكس على المشروع الأوروبي إذا تم تنفيذ ما تضمنه، خصوصاً إذا توافق ذلك مع دور فرنسي طموح وحكيم بعد الانتخابات الرئاسية التي ستعقد في أبريل (نيسان) 2022.
نقلا اندبندنت عربية