عتبة الاختراق:
أقلمة التفاوض في الشرق الأوسط ومستقبل ملفات التسوية

عتبة الاختراق:

أقلمة التفاوض في الشرق الأوسط ومستقبل ملفات التسوية



يستضيف مجلس التعاون الخليجي في مقر أمانته العامة في الرياض الحوار اليمني–اليمني لرسم خريطة طريق لمستقبل العملية السياسية في اليمن. ومن المقرر أن يمتد الحوار الذي انطلق في 29 مارس الجاري، حتى 7 أبريل المقبل. وبالتوازي مع ذلك، تستضيف القاهرة مشاورات بين القوى الليبية، ستمتد أيضاً حتى الأسبوع القادم، في محاولة لإيجاد مخرج من حالة الانسداد السياسي الراهنة التي تشهدها العملية السياسية في ليبيا. كما استضافت اسطنبول أيضاً جولة جديدة من الحوار بين الجانبين الروسي والأوكراني، في مسعى لتهدئة التصعيد في الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا. وتشكل هذه المفاوضات في بعض عواصم ومدن الشرق الأوسط ظاهرة متصاعدة لتولي قوى إقليمية دور الوسيط بين الأطراف المتصارعة عبر إدارة طاولات التفاوض، على عكس ما كان يجري من قبل، حيث كانت عواصم التفاوض خارج الشرق الأوسط، ولا سيما في جنيف واستوكهولم، بالإضافة إلى مينسك في الحالة الروسية-الأوكرانية.

قواسم مشتركة

ثمة قواسم مشتركة بين دول المنطقة التي تستضيف المفاوضات الخاصة ببعض الأزمات الإقليمية والدولية، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- الانخراط النشط في الملفات: يتمثل القاسم المشترك الأساسي بين الدول الثلاث في انخراطها السياسي في الملفات التي تمارس فيها دوراً، بالإضافة إلى تقاربها مع كافة الأطراف، الأمر الذي ينظر إليه على أنه نقطة لصالح دفع عملية التفاوض. إذ قادت السعودية عمليات التحالف العربي لاستعادة الشرعية الدستورية في اليمن. فيما شاركت مصر بصفة دائمة في الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار في ليبيا. كما تسعى تركيا إلى الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع طرفي الأزمة الأوكرانية.

2- إدراك طبيعة الأزمات القائمة: تشترك الدول الثلاث ليس فقط في إدراك طبيعة الأزمات التي تسعى إلى المساهمة في جهود تسويتها، وإنما أيضاً في استشراف انعكاساتها على أمنها ومصالحها. فانعكاسات استمرار الحرب في اليمن تؤثر على الأمن الخليجي بشكل عام، والرياض بشكل خاص، وقد بلورت الأخيرة عبر منصة مجلس التعاون الخليجي رغبة معلنة في إنهاء الحرب في اليمن. كذلك انعكس التدهور الأمني والانقسام السياسي في ليبيا على الأمن القومي المصري، فيما تؤكد القاهرة بشكل دائم على أولوية استعادة الاستقرار وإعادة بناء الدولة في ليبيا. في حين أن تركيا (العضو في حلف الناتو) تتأثر بطبيعة الحال بالتداعيات الجيوسياسية للحرب الروسية في أوكرانيا، وبالتالي فإن القوى الثلاث مؤهلة بطبيعة الحال لتولي عملية التفاوض.

3- وضع خريطة طريق شاملة: تسعىالقوى المستضيفة للمفاوضات إلى وضع خريطة طريق لعملية سياسية شاملة، تنهي الحروب والصراعات والأزمات السياسية، وبالتالي تركز على العملية السياسية في حد ذاتها وفقاً لأهداف واضحة ومعلنة، وليس مباحثات تنتهي بانتزاع أطراف معينة مكاسب على حساب أطراف أخرى. فالرياض أكدت مراراً ترحيبها بمشاركة الحوثيين في المشاورات، لكنها في الوقت ذاته تؤسس لعملية سياسية بغض النظر عن مشاركة الحوثيين من عدمه. كذلك فإن القاهرة تؤكد على أن الهدف من المباحثات هو وضع أسس لعملية سياسية كأولوية وليس مجرد تمكين الحكومة الليبية المكلفة من البرلمان. في حين تسعى تركيا نحو تفعيل مسار سياسي يهدف إلى إنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا.

4- تراجع مزاعم الأطراف المناوئة: بدا لافتاً أن هناك تراجعاً في المزاعم التي تتبناها الأطراف المناوئة، والتي كانت تدعي أن القوى الراعية لعملية التفاوض غير محايدة، لا سيما في الملفين اليمني والليبي. فقد بررت المليشيا الحوثية المتمردة في اليمن موقفها من عدم المشاركة في الحوار في الرياض بأن السعودية طرف في الحرب، وطلبت في بداية الأمر نقل المباحثات إلى عاصمة أخرى، لكنها تراجعت عن هذا الموقف لاحقاً، وطرحت مبادرتها التي تتضمن فتح الموانئ الجوية والبحرية في مناطق النفوذ، وهو ما ينطوي على تناقض في الموقف ويؤكد انعدام رغبتها في تسوية الأزمة، حيث تراهن على تحقيق شروط استباقية تزيد الأزمة تعقيداً، من منظور أن رفع القيود من جانب التحالف على الموانئ يحقق مصلحة خاصة للحوثيين فقط وليس مطلباً محل إجماع وطني، كما لا يتسق مع الهدف الأساسي من أي مباحثات يفترض أن تتطرق إلى قضية إنهاء الحرب والتوصل لعملية سياسية، وليس تحقيق مكسب لطرف على حساب طرف آخر، وهو السياق ذاته في الملف الليبي، إذ إن غياب خالد المشري -رئيس المجلس الأعلى للدولة- عن المشاورات الجارية في القاهرة يعكس توظيفه لضرورة مشاركة مجلس الدولة في المسار الخاص بالدستور، وفق الاتفاق السياسي، كورقة ضغط على الأطراف الليبية الأخرى، في حين أن هذا التوجه لا يعكس موقف مجلس الدولة عموماً، وفي الأخير سيضطر للتراجع خطوة إلى الخلف للوصول إلى تسوية مع البرلمان.

حسابات متداخلة

على الرغم من أن الحركة الحوثية في اليمن لم تشارك في مسار الرياض الحالي، أو الحوار اليمني-اليمني، وهو ما يضعها خارج الإجماع الوطني، إلا أن ذلك لا ينفي أن هذا المسار سيمثل في الوقت ذاته أرضية جديدة لإطلاق عملية تهدئة أو التوصل لهدنة لوقف إطلاق النار بمساعدة الأمم المتحدة، بالإضافة إلى أن وضع خريطة طريق سيفتح الباب أمام الحوثيين للعودة مرة أخرى إلى الوفاق الوطني، في حال تخلت المليشيا عن مشروعها الذي تعمل عليه في اليمن كوكيل إقليمي لإيران.

 لكن في المرحلة الحالية، من المتصور أن هناك أولوية لإصلاح هيكل الشرعية والمؤسسة العسكرية، وبالتالي سيشكل ذلك متغيراً أو نقطة تحول سياسي في رأب الصدع ما بين القوى السياسية اليمنية كأولوية مرحلية، حيث لا يمكن رهن الموقف السياسي اليمني بشكل عام بموقف الحوثيين.

أما بالنسبة للقضية الليبية، فعلى الرغم من عدم حضور المجلس الأعلى للدولة، إلا أنه أعلن أنه سيلحق بتلك المفاوضات في الأسبوع التالي، حيث أكد على أن القاهرة تقف على مسافة واحدة من كافة الأطراف، وبالتالي تلعب دور “الوسيط النزيه” في هذه العملية، بالإضافة إلى ترقب نضوج موقف الأطراف الفاعلة محلياً ودولياً على إثر تلك المباحثات، كما يعول على التحاق البعثة الأممية باعتبارها أيضاً أحد أطراف هذه العملية بحكم وضع ليبيا تحت الفصل السابع، إلى جانب أن الموضوع الخلافي الرئيسي الخاص بالإطار الدستوري كانت الأطراف الليبية قد قطعت فيه شوطاً من قبل في مسار الغردقة، ويمكن أن تشكل العودة إليه مجدداً مخرجاً من هذه الأزمة.

فضلاً عن ذلك، فإن الكرملين قلل من أهمية النتائج الأولية التي أفضت إليها جولة المباحثات مع الجانب الأوكراني في اسطنبول، لكنه أكد في الوقت ذاته عدم نية القوات الروسية خوض حرب حتى النهاية وبأي ثمن، وفقاً للناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف. إلا أن هذا الموقف لا يعني إنهاء مسار التفاوض، بل يمكن البناء على تلك المباحثات وتطويرها في المستقبل، باعتبارها أيضاً خطوة متقدمة عن جولات المحادثات التي استضافتها بيلاروسيا، والتي كانت تقتصر فقط على الوضع الإنساني في أوكرانيا. وعليه، هناك رغبة من الأطراف المختلفة في الإبقاء على المسار التفاوضي رغم عدم توقف الحرب، وهي نقطة إيجابية تحسب لهذه الآلية بشكل عام بغض النظر عن محصلة النتائج في الأخير.

تطور ملحوظ

وفقاً للسياق السابق، يمكن القول إن أياً من المسارات الثلاثة لم تحقق إلى الآن اختراقاً في ملفات الأزمات التي تتناولها المباحثات الجارية، لكنّ هناك تطوراً واضحاً في الآلية والقضايا المطروحة. ففي الحوار اليمني-اليمني، هناك عديد من اللجان للتباحث حول القضايا المطروحة على الطاولة (السياسية – الاقتصادية – العسكرية – الاجتماعية – الإعلامية) واختيار الموضوعات التي ستطرح، وبتمثيل من كافة الأطراف اليمنية، للوصول إلى مخرجات في نهاية المطاف. كذلك فإن مباحثات القاهرة ستهدف في الأخير إلى تبني مسار حاسم لتعدد المبادرات حتى تنتقل إلى وضع آليات تنفيذية ستشكل اختراقاً في المدى المنظور في الأزمة، لكنها تحد في الوقت ذاته من خروج الموقف عن السيطرة والعودة مجدداً إلى الصراع المسلح. كما أن تصريح الكرملين السالف الإشارة إليه يعكس نقلة سياسية في الموقف الروسي على الرغم من عدم توقف الحرب، لكن تقدم المباحثات ورفع مستوى المشاركين يشكل بطبيعة الحال نقلة هامة في هذا السياق، وبالتالي يمكن القول إن المباحثات في العواصم الثلاث تقف على أعتاب مرحلة الاختراق، وإن كانت الحالة الليبية الأقرب إلى هذه العتبة بحكم الحفاظ على قرار وقف إطلاق النار، حيث إنها تبقى الأكثر قابلية لتحقيق اختراق من الحالات الأخرى التي لا يزال فيها الصراع ممكناً. لكن قد يشكل التوصل لهدنة في الحرب اليمنية أو الحرب الأوكرانية اختراقاً أولياً في حال التوصل إليه، قد يعيد بناء مستوى من الثقة بين الأطراف المختلفة يعزز من التقدم في عملية التسوية أو الوصول إلى عتبة جديدة في ملفات التسوية خلال المستقبل القريب.