استقرت العلاقات داخل التحالف الغربي بعد قرون من الصراعات البينية بلغت ذروتها بالحربين العالميتين الأولى والثانية على نموذج تعاوني تقوده الولايات المتحدة ويجسده تنظيمياً حلف الأطلنطي. وداخل هذا النموذج تبلور نموذج تعاوني آخر عبرت عنه التجربة الفريدة للتكامل الأوروبي التي تجسدت في «الاتحاد الأوروبي»، ولا شك أن الاستقطاب الدولي الحاد بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي قد ساعد على تماسك التحالف الغربي. وشهدت العقود الثلاثة الأخيرة تطورات دولية جذرية لعل أهمها تفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي في مطلع تسعينات القرن الماضي، وبروز القوة الصينية عالمياً وتميزها بطابع ناعم قائم على التعاون الاقتصادي، وإنْ لم تغفل القوة العسكرية بطبيعة الحال، وكذلك بدأت بلدان التحالف الغربي تشهد ظاهرة صعود اليمين السياسي المتطرف في عديد منها، واعتباراً من2016 بدأت تداعيات هذه التطورات الجذرية في الظهور بانتصار أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الذي أُجري في ذلك العام.
ورغم التعقيدات الهائلة التي أحاطت بترتيبات هذا الخروج إلا أنه تم التوصل إلى الاتفاق الذي نظم انسحاب بريطانيا رسمياً من الاتحاد الأوروبي في نهاية 2020. وكان الذين تصوروا أن الاتفاق وضع نهاية لمشكلة العلاقات البريطانية- الأوروبية واهمين حيث بدا واضحاً أن ثمة نزوعاً بريطانياً للالتفاف حول بعض التزاماتها بموجبه، كما في الشرط الخاص بأيرلندا الشمالية كذلك بدأت مشكلات التطبيق في الظهور كما يتضح من الأزمة الراهنة لحقوق الصيد بين بريطانيا وفرنسا.
ومع وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية في2017 بدأ العامل الأميركي يحدث آثاراً سلبية على التحالف الغربي بالنهج الخشن الذي اتبعه في الضغط على حلفائه الأوروبيين للوفاء بالتزاماتهم تجاه تمويل حلف الأطلنطي، بالإضافة إلى الدور السلبي الذي لعبه في تفكيك الاتحاد الأوروبي بانحيازه الواضح إلى معسكر الخروج البريطاني عكس سلفه أوباما، ومع مجيء جو بايدن إلى الرئاسة في مطلع هذا العام ساد الأمل في رأب ذلك الصدع في العلاقات الأميركية- الأوروبية بعد إسقاط النهج الخشن لترامب، إلا أن بايدن أقدم مؤخراً على ما قد تكون له نتائج أكثر سلبية على هذه العلاقات باتفاق الشراكة الاستراتيجية مع بريطانيا وأستراليا في سبتمبر الماضي، الذي وجه ضربة قاصمة للمصالح الاقتصادية الفرنسية بإلغاء أستراليا لصفقة شراء غواصات فرنسية قُدرت قيمتها بحوالي40 – 60 مليار دولار ناهيك بمساس هذا الإلغاء بسمعة الصناعة العسكرية الفرنسية ومكانتها، وهو ما أدى إلى تصرفات غير مسبوقة في العلاقات البينية داخل التحالف الغربي كان أبرزها سحب فرنسا سفيريها في أستراليا والولايات المتحدة والتعليقات الدبلوماسية الحادة على الاتفاق بما في ذلك تفسير فرنسا لعدم سحب سفيرها من لندن بالتعود على السلوك الانتهازي من بريطانيا.
وعلى الرغم مما ذهب إليه بعض المراقبين والمحللين في حينه من أن الأزمة عابرة، ولابد ستنتهي بالعودة للمدى الطبيعي للتفاعلات، إلا أنه من الصعب تجاهل الأثر التراكمي المحتمل لهذه الأزمات المتكررة وأقله تعزيز التوجه نحو بديل دفاعي أوروبي مستقل عن حلف الأطلنطي لن يسلم بدوره من الخلافات، وكذلك تعزيز منطق عدم الانسياق للسلوك الأميركي التصعيدي تجاه الصين.
وعلى الرغم من بذل جهود دبلوماسية لتطويق الآثار السلبية لاتفاق الشراكة الاستراتيجية فإن الواقع الجديد المحيط بالتحالف الغربي سرعان ما أفرز أزمة جديدة لا تقل حدة عن سابقاتها وهي أزمة حقوق الصيد بين بريطانيا وفرنسا التي أدخلت مزيداً من المظاهر الصراعية الجديدة على نموذج التحالف الغربي كتهديد فرنسا بقطع الكهرباء عن بريطانيا، وهو ما يعزز الحاجة إلى التأمل في مستقبل التحالف الغربي.
نقلا عن الاتحاد