في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أدى رفض طالبان العمل ضد تنظيم القاعدة وزعيمه إلى شن الولايات المتحدة وحلفائها حملة عسكرية هناك، ثم أعقب ذلك نهاية حكم طالبان.
وفي وقت لاحق، انخرط المنتصرون في عمليات تطهير وبناء الدولة في أفغانستان. وكان الهدف هو إنشاء نظام بإدارة مدنية وعسكرية قادرة على الحكم المتسم بالكفاءة والفاعلية. وسوف تكون هذه الإدارة قريبة من الغرب والهدوء الودي.
ورغم مختلف أوجه القصور والإخفاقات؛ فإن النظام متعدد الأحزاب، والانتخابات الحرة، وتحرير المرأة، ودخول الفتيات إلى المدارس، وإدخال تحسينات على النظام الصحي كانت من الإنجازات المهمة. ولفترة قصيرة من الزمن، ربما اعتقد المرء أن أفغانستان كانت آمنة وفي طريقها إلى قصة نجاح مثالية.
حسناً، لم يكن هذا هو الواقع. لم تتلاش حركة طالبان بل اندمجت بكل بساطة في الأقاليم، وضمدت جراحها، وبدأت تضرب هنا وهناك من جديد، وتتحين الفرصة المناسبة لعودتها بالكامل. كما اعتمدت الحركة استراتيجية سياسية جديدة، بل وجدت مقعداً لها على طاولة المفاوضات مع الولايات المتحدة.
لقد أطلق الرئيس السابق دونالد ترمب فكرة الانسحاب، وتبعه في ذلك الرئيس جوزيف بايدن. كل ذلك جرى على نحو متسرع وغير مدروس. ولم يستشر أحد الأفغان أصحاب البلد. كما لم يُستشر الحلفاء من حلف شمال الأطلسي أيضاً. لقد أُخذ الجميع على حين غرة، باستثناء طالبان.
وقد أعلن قادة حلف شمال الأطلسي في بروكسل في 14 يونيو (حزيران) 2021 أن «الإرهابيين قد حُرموا من ملاذ آمن، وأن أفغانستان قد تلقت المساعدة لبناء مؤسساتها الأمنية، وأن قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية قد تلقت التدريب الكافي وأصبحت على أهبة الاستعداد لتحمل المسؤولية الأمنية الكاملة». كما صرح قادة الحلف أنه رغم انتهاء العمليات العسكرية للحلف في أفغانستان، فإن سحب القوات لا يعني إنهاء العلاقات، وإن التزامهم الوقوف مع أفغانستان مستمر.
وقد أكد الرئيس بايدن أن أفغانستان لن تسقط في مأزق، وأن الأفغان المدربين بشكل جيد كانوا قادرين على مقاومة وإيقاف أي عملية عسكرية محتملة لطالبان. وفي وقت لاحق، قال بايدن إنه مع انسحاب القوات الأجنبية، لم يعد هناك سبب لقتال طالبان. ومن الواضح أنه كان هناك نقص خطير في فهم طبيعة أفغانستان وثقافتها وطريقة تفكيرها.
فحركة طالبان، ولأسباب مختلفة، تملك قاعدة دعم في البلاد. والتساهل في تبديل التحالفات يشكل أيضا عنصراً لا بد من أخذه في الحسبان. ويعرف عن القادة المحليين تغيير الولاءات في وجود المحفزات الصحيحة، عادة ما يتم الإعراب عنها أو دعمها بالدولار الأميركي. ثم هناك الأرباح الكبيرة من حقول الخشخاش وتجارة المخدرات.
لا تخطط حركة طالبان لتقاسم السلطة، وإنما السيطرة الكاملة على السلطة. فهي ليست هناك لإبرام صفقات ومشاركة الحكم، وإنما الحكم بنفسها وفرض أسلوب الحياة الموافق لها تماماً. ولقد أخفق نظام البلايين من الدولارات في التأهب والاستعداد لمواجهة قوة طالبان.
أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن «برنامج قبول اللاجئين»، الذي يشمل الأفغان وأفراد أسرهم المباشرين الذين عملوا مع الولايات المتحدة، وقد يكونون في خطر بسبب انتماءاتهم. ويشير هذا البرنامج بقوة إلى أن الولايات المتحدة تتوقع استيلاء طالبان على السلطة، وتحاول حماية الأفغان.
وتخطط مؤسسات الأمم المتحدة المتمركزة في كابل للانتقال إلى خارج أفغانستان. وتقلص جميع السفارات من حجم الموظفين، وبعضها تغلق أبوابها تماماً.
إن قيادة وحكومة أفغانستان ليستا ملهمتين. وفي بعض الحالات يخوض الجيش الأفغاني قتالاً عنيفاً، إلا أن عدده قليل والدافع ضعيف أو حتى مفقود في أغلب الحالات. ويبدو أن الهدف الأساسي لكل إنسان يتلخص في التوصل إلى أسرع الطرق وأكثرها أماناً للإخلاء. والمجهود الحربي هو جهد ثانوي ولا يهدف إلا إلى دعم هذا الهدف الرئيسي.
من الواضح أن الجميع يستعدون لعصر جديد. وفي مثل هذه البيئة، لماذا يتعين على الجيش الأفغاني أن يحارب من أجل قضية تبدو خاسرة؟
في كل الأحوال فإن الحكومة الأفغانية قد تهدف إلى التشبث بالمراكز الحضرية الكبرى، والدفاع عنها بشراسة، والتأكيد لطالبان أن محاولة الاستيلاء على هذه المراكز سوف تكون مكلفة للغاية. وعلى هذا النحو فربما يخططون لإرغام طالبان على التفاوض بجدية والتوصل إلى اتفاق يقضي بالحكم المشترك. ربما. ولكن أحد العوامل المهمة هو أن طالبان موجودة بالفعل في المدن الكبيرة، وفي العاصمة كابل، مع وجود ميليشيات طالبان هناك لبعض الوقت الآن. إنهم ينتظرون الأوامر كي يتحركوا. وتشعر طالبان بأنها تنتصر. ومن ثم، ما الذي يدفعها إلى التنازل أو التفاوض؟
وماذا عن بقية العالم؟ إن منظمة الأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، والدول المجاورة، والدول التي تقع على مسافات بعيدة، جميعها معنية بهذه التطورات.
في بداية أغسطس (آب)، اجتمع زعماء خمس دول بوسط آسيا، بما فيها البلدان المجاورة لأفغانستان في الشمال وهي أوزبكستان، وطاجيكستان، وتركمانستان، وأعربوا عن قلقهم إزاء تأثير التطورات في أفغانستان على أمن منطقة آسيا الوسطى. كما أعلنوا أنهم سوف يواجهون هذا التحدي سوياً.
وتراقب روسيا الأمر عن كثب. فقد أجرى الروس تدريبات عسكرية مشتركة مع الطاجيك والأوزبك بالقرب من حدودهم مع أفغانستان.
ورغم كل ذلك، تتحدث طالبان مع روسيا، والصين، وباكستان، وإيران، من بين جهات أخرى. ويبدو أنه ما من أحد، وخصوصاً في بلدان الجوار، يرغب في إهمال الحاكم المحتمل للبلاد. وهذه البلدان ليست سعيدة بحقيقة أن الولايات المتحدة سوف تغادر على عجل، في ظل فشل آخر.
بعد الأزمة السورية، ربما يواجه العالم أزمة لاجئين جديدة ناجمة عن أفغانستان. وتشير أرقام مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى أنه حتى منذ بداية هذا العام، نزح نحو 400 ألف مواطن أفغاني داخلياً، مع فرار الآلاف خارج البلاد.
ومن الطرق المفضلة لهؤلاء الذين يفرون خارجها، العبور عبر إيران، ثم الانتقال إلى تركيا، وإذا أمكن إلى أوروبا. وتستضيف إيران نفسها نحو 3 ملايين أفغاني مسجلين وغير مسجلين فروا من بلادهم في حروب متعاقبة، وفي كل أنواع الأزمات منذ الغزو السوفياتي في 1979. أما إيران التي أنهكتها العقوبات، والتي أصبح اقتصادها في حاجة ماسة إلى المساعدة، فهي سعيدة بدفع الأفغان غرباً، وإبقاء الطرق مفتوحة أمام القادمين من أفغانستان للذهاب إلى الغرب. والآن صارت تركيا وأوروبا في حالة تأهب قصوى.
أصبحت كل التأكيدات والبيانات من أعلى المستويات بلا معنى مع زيادة عدد أفراد حركة طالبان، التي تسيطر الآن على أكثر من ثلثي مساحة البلاد. وحتى الأجزاء الشمالية، بما في ذلك «مزار شريف»، باتت الآن تحت سيطرة طالبان. وكانت هذه هي الأماكن التي كان أمراء الحرب المعادون لطالبان يسيطرون عليها بشكل كامل في الماضي. والآن، تدخل طالبان إلى كابل من جميع الجهات، كما أفادت وسائل الإعلام الدولية. وقد نشهد أحداثاً دموية مريعة في كابل، أو اتفاقاً بين طالبان والحكومة لمنع إراقة الدماء وتيسير المرور الآمن. وفي كل الأحوال فإن طالبان هي الرابح الوحيد.
لقد أدى الفساد، وسوء الإدارة، والقبلية، مقترناً بالسياسات الداخلية للولايات المتحدة والسياسة الدولية من ناحية، وحركة طالبان من ناحية أخرى، إلى أمر ما في أفغانستان، وهو أمر لم يكن كثيرون يأملون فيه أو يتوقعون حدوثه.
إن كل الجهود والإنجازات التي تحققت على مدى العشرين عاماً الماضية، مهما كانت متواضعة أو وافرة، تبدو كأنها سوف تتلاشى عما قريب.
ويواصل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش الإرهابيان، فضلاً عن التنظيمات الإرهابية الأصغر حجماً الأخرى، حضورهما على النحو الوارد في التقرير المقدم من فريق الدعم التحليلي ومراقبة العقوبات إلى مجلس الأمن (التقرير رقم S/2021/486).
إن أفغانستان على وشك أن تصبح مثالاً آخر لآلاف الأرواح التي أزهقت، وبلايين الدولارات التي أنفقت، ومع ذلك، فإن الوضع يوم الانسحاب، تبين أنه أسوأ من الوضع يوم الدخول.
لقد تم إنجاز الكثير على ما يبدو، مع عدم إنجاز الكثير في واقع الأمر. وسوف تبقى المسألة الأفغانية مهيمنة على السياسة الدولية في المستقبل المنظور.
نقلا عن الشرق الاوسط