لم تقتصر التهديدات التي تواجهها حركة التجارة في البحر الأحمر على الهجمات التي تشنها المليشيا الحوثية، والتي تصاعدت وتيرتها في الفترة الأخيرة، وإنما امتدت أيضاً إلى عمليات القرصنة التي تجددت بشكل لافت في المنطقة الواقعة بالقرب من الصومال، بعد مرور نحو عقد على تراجع هذه الظاهرة.
ويثير ذلك تساؤلات عديدة حول أسباب عودة تلك الظاهرة مجدداً، في الوقت الذي تزايد فيه اهتمام المجتمع الدولي بالتعامل مع التهديدات الحوثية التي تواجه حركة التجارة في تلك المنطقة التي تحظى بأهمية استراتيجية كبيرة.
ففي هذا السياق، كشفت عمليات التجارة البحرية البريطانية، في 23 ديسمبر الفائت، أن أشخاصاً مدججين بالسلاح استولوا على سفينة تجارية بالقرب من بلدة إيل قبالة سواحل الصومال، وهو ما جاء بعد اختطاف سفينة تحمل علم مالطا في بحر العرب واقتيادها إلى المنطقة نفسها بالقرب من الصومال.
عوامل دافعة
يمكن تفسير عودة ظاهرة القرصنة مرة أخرى في البحر الأحمر في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- إنهاء التفويض الأممي بمكافحة القرصنة: اتخذ مجلس الأمن الدولي، في 12 مارس 2022، قراراً بعدم تجديد صلاحية تفويضه لمكافحة القرصنة في المياه الإقليمية الصومالية، وذلك بعد أن كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد اقترحت، في 4 ديسمبر 2021، تجديد التفويض لمدة ثلاثة أشهر فقط، بعد أن كان التمديد يصل إلى عام.
ومن دون شك، فإن ذلك يطرح دلالة مهمة تنصرف إلى أن الاهتمام الدولي بمكافحة هذه الظاهرة قد تراجع منذ هذه الفترة، في ظل انخفاض عمليات القرصنة بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، بما يعني أن الدول المعنية بهذا الملف استبعدت تجدد تلك العمليات من جديد، على نحو ثبت أنه لم يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض.
ورغم ذلك، فإن تقارير عديدة أشارت إلى أن دولاً أوروبية، مثل فرنسا، حذرت من أن إنهاء التفويض قد يتسبب في حدوث فراغ أمني، إلا أن الصومال اعتبرت أن تراجع الظاهرة في السنوات الأخيرة لا يوفر مبرراً لاستمرار التمديد.
2- التكلفة المادية الكبيرة لمواجهة الظاهرة: رغم انتشار السفن الحربية للدول المعنية بحماية حركة التجارة العالمية؛ إلا أن السفن المؤهلة لخوض عمليات مكافحة القرصنة قليلة نسبياً، فضلاً عن التكلفة المادية الكبيرة لمهمات من هذا النوع، من منظور أن هذه السفن لا بد أن تكون مُجهزة بصواريخ “كروز” بشكل خاص.
ويبدو التعامل مع تهديدات المليشيا الحوثية مثالاً على ذلك، فبحسب صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، فإن بعض الأسلحة التي تستخدمها المليشيا، مثل الطائرة الإيرانية من دون طيار من طراز “شاهد”، تُكلف 20 ألف يورو، في حين أن صاروخ “أستر” الفرنسي المضاد للطائرات الذي يتم إطلاقه من فرقاطات متعددة المهام، يُكلف مليون يورو. وبالتّالي، تُمثّل تكلفة اعتراض الطائرات المُسيرة أو الصواريخ التي يُطلقها الحوثيون تحدياً مادياً، بل ولوجستياً في الوقت نفسه، أمام السفن المُكلفة بمكافحة القرصنة في مياه البحر الأحمر.
3- صعوبة المُرافقة العسكرية للسفن التجارية: يبدو هذا الإجراء من الخيارات المطروحة أمام الدول المعنية بحماية حركة التجارة. لكن رغم ذلك؛ فإن فاعلية هذا الإجراء تتراجع نظراً للصعوبة التي يواجهها. فإضافةً إلى العدد الكبير من السفن التي تعبر البحر الأحمر سنوياً، ويصل عددها إلى حوالي 19 ألف سفينة، حسب بعض التقديرات، فإن مُرافقة السفن التجارية في مسافة تصل إلى عدة كيلو مترات، لعدد كبير من سفن الشحن الكبيرة، تتراجع فاعليتها، خاصة أن استهداف هذه القوافل عسكرياً يُصبح أكثر سهولة. ولعل إدراك القائمين على أعمال القرصنة لهذه الصعوبات اللوجستية يدفع إلى ازدياد هذه الظاهرة، بعد أن كانت قد تراجعت لسنوات عديدة.
4- إشكاليّات الضربات العسكرية على الأهداف البرية: تدفع التكلفة المادية الكبيرة، والتحدي اللوجستي، إلى إمكانية أن تقوم بعض الدول، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بتوجيه ضربات عسكرية على نقاط الانطلاق التي تستخدمها الجماعات التي تقوم بهذه العمليات، إلا أن ذلك، في الوقت الذي يُصبح فيه أمراً ممكناً، يُثير قدراً من الإشكاليات.
أهم هذه الإشكاليات يتعلق باحتمال عدم موافقة بعض الدول على تبني هذا الخيار، خاصة أن ذلك يمكن أن يفرض تداعيات إقليمية لا تتوافق مع حساباتها ومصالحها. كما أن بعض الدول الأخرى قد لا تستطيع تمرير مثل هذه الضربات على الساحة الداخلية، في حالة ما إذا كان هناك اتجاه داخلي معارض لزيادة الانخراط في بعض التحركات العسكرية على الساحة الخارجية.
5- عدم الاستقرار الأمني على جانبي باب المندب: ففي الوقت الذي تشهد فيه دول شرق أفريقيا، المُشاطئة للمحيط الهندي ومداخل البحر الأحمر الجنوبية، صراعات مسلحة مُدمرة ونشاطاً متزايداً للتنظيمات الإرهابية، كما في الصومال على سبيل المثال؛ تبدو حالة عدم الاستقرار الأمني على الجانب الآخر من باب المندب، حيث الساحة اليمنية، بكافة التطورات التي شهدتها منذ عام 2011. وقد ساعد عدم الاستقرار الأمني على جانبي مضيق باب المندب والبحر الأحمر من جهة الجنوب، في تنامي ظاهرة القرصنة التي تستهدف السفن التجارية وسفن الشحن.
مخاطر جيوسياسية
في هذا السياق، يُمكن القول إن القرصنة في جنوب البحر الأحمر لها آثار سلبية كبيرة ترتبط بصعود وتيرة المخاطر الجيوسياسية التي سوف تؤدي إلى مزيدٍ من ارتفاع أسعار النفط والغاز نتيجة ارتفاع تكلفة الشحن البحري والتأمين البحري في ظل اتجاه بعض الشركات الكبرى إلى استخدام طرق بحرية بديلة، على غرار طريق رأس الرجاء الصالح، على نحو يؤدي إلى إطالة أمد الرحلة بما يتراوح بين 9 أيام وأسبوعين حسب نقطة الانطلاق ومكان الوصول.
وبالتالي، فإضافة إلى الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تُلحقها أعمال القرصنة بالتجارة العالمية، وبسلاسل الإمداد الخاصة بالطاقة، هناك خسارة سياسية واستراتيجية لقوى كبرى يمكن أن تتفاقم في حالة ما إذا لم يتم اتخاذ خطوات إجرائية على الأرض لمواجهة هذه الظاهرة، وتحييد الأسباب التي أدت إلى تجددها مرة أخرى بعد أن تراجعت خلال السنوات الماضية.