اتسع نطاق التوتر بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث لم يعد يقتصر فقط على الساحة الأوكرانية، وإنما امتد مجدداً إلى الساحة السورية. إذ كان لافتاً عودة نبرة التهديدات الروسية ضد القوات الأمريكية التي تتركز في شمال سوريا، بالتوازي مع بروز تقارير أشارت إلى أن روسيا لم تكن بعيدة عن الهجمات التي تعرضت لها تلك القوات في الفترة الماضية.
وفي الواقع، فإن ذلك لا يمكن تفسيره فقط في ضوء التحذيرات التي أطلقتها موسكو، في 31 مارس الفائت، من عواقب التحركات التي تقوم بها القوات الأمريكية خارج المناطق الخاصة التي تنشط فيها قوات التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لمكافحة تنظيم “داعش”، وهي المناطق التي تخضع لسيطرة مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية. فقد احتجت موسكو رسمياً لدى التحالف على التحركات الأمريكية الأخيرة في منطقة الحسكة في شمال شرق سوريا، واعتبرتها “استفزازاً”.
متغيرات عديدة
يمكن القول إن ثمة متغيرات عديدة كان لها دور في تجدد التوتر بين موسكو وواشنطن في سوريا، في الصدارة منها إعلان الأولى، في 21 فبراير الماضي، تعليق معاهدة “نيو ستارت” الموقعة عام 2010، وهى آخر معاهدة متبقية مع الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على الأسلحة النووية، على نحو دفع الأخيرة إلى وقف تبادل بعض البيانات عن قواتها النووية مع موسكو.
بالتوازي مع ما سبق، أدلت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد بتصريحات، على هامش “قمة الديمقراطية” التي عُقدت في كوستاريكا، في 31 مارس الفائت، قالت فيها أن روسيا “يجب ألا تكون عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي، بسبب ما فعلته في أوكرانيا”، وأضافت: “لكن ميثاق الأمم المتحدة لا يسمح بتعديل وضعها كعضو دائم”.
في المقابل، تزايدت مساحة التوتر بين البلدين بعد إعلان روسيا، في 31 مارس الفائت، عن “عقيدة جديدة” بشأن توجهاتها الخارجية، تقوم على اعتبار “مسار واشنطن المصدر الرئيسي للمخاطر على أمنها والأمن الدولي والسلام والتنمية العادلة للبشرية جمعاء”.
ووصل هذا التوتر إلى الذروة بعد إلقاء أجهزة الأمن الروسية، في نهاية الشهر الفائت، القبض على مراسل صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، واتهامه بالتجسس لصالح واشنطن، وهي المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال صحفي أمريكي بتهمة التجسس منذ نهاية الحرب الباردة بين البلدين.
دوافع رئيسية
يمكن تفسير تجدد وتصاعد التوتر بين موسكو وواشنطن في سوريا في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- استمرار انعكاسات الأزمة الأوكرانية: ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية ومعها القوى الأوروبية تتبنى مواقف قوية ضد الانخراط العسكري الروسي في أوكرانيا؛ حيث ترى اتجاهات غربية عديدة أن روسيا تستهدف من وراء حربها في أوكرانيا محاصرة الحضور الغربي في مناطق نفوذها التقليدية والتاريخية. ويبدو أن التراشق بين موسكو وواشنطن على الساحة السورية لا ينفصل عن التطور الحادث على الساحة الأوكرانية، خاصةً بعد قرار موسكو، في 26 مارس الفائت، بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، وذلك رداً على استمرار الدعم الأمريكي لكييف، وإعلان بريطانيا عزمها إمداد أوكرانيا بذخيرة اليورانيوم المنضب، على نحو بدأ يفرض تغييراً جديداً على المستوى الميداني.
2- ترسيخ الحضور المزدوج على الساحة السورية: رغم انشغال روسيا في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، إلا أنها ما زالت تبدي اهتماماً لافتاً بتطورات الساحة السورية، لضمان تأمين مصالحها ونفوذها، خاصة أن القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الأزمة السورية سعت إلى توظيف الانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية لتعزيز حضورها في سوريا والذي يمكن أن يمثل خصماً من الحضور الروسي.
ومن هنا، يمكن فهم استقبال موسكو، للرئيس السوري بشار الأسد، في 14 مارس الفائت، والتأكيد عشية الزيارة على أن العلاقات الروسية – السورية ستشهد مرحلة جديدة على كافة المستويات، ولا سيما على المستوى العسكري.
وكان لافتاً في هذا السياق، أنه في التوقيت نفسه، أبدت الولايات المتحدة الأمريكية اهتماماً خاصاً بتوجيه رسائل إلى القوى المعنية بأنها حريصة على استمرار وربما تعزيز حضورها على الساحة السورية، على نحو بدا جلياً في زيارة الجنرال إريك كوريلا قائد القيادة المركزية، في 11 مارس الفائت، مخيمات للاجئين في شمال شرق سوريا، وقبلها زيارة رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي لشمال شرق سوريا في 4 من الشهر نفسه.
ومن هنا، فإنّ تصاعد حدة التوتر بين موسكو وواشنطن على الساحة السورية يرتبط – في جانب منه – بالرغبة في ضمان المشاركة في عملية إعادة صياغة الترتيبات الأمنية والسياسية التي تجري على الساحة السورية. ويكتسب هذا الهدف أهمية خاصة في المرحلة الحالية، لا سيما في ظل توقعات الدولتين بعدم اقتراب الحرب في أوكرانيا من نهايتها، بسبب عدم نجاح روسيا في تحقيق أهدافها الرئيسية حتى الآن، بالتوازي مع إصرار الدول الغربية على تقديم مزيد من الدعم العسكري لأوكرانيا لمساعدتها على مواجهة العمليات العسكرية الروسية.
3- تعزيز التقارب الروسي – الصيني: ترى اتجاهات عديدة في واشنطن أن التقارب الملحوظ بين روسيا والصين قد يفرض تحدياً جديداً أمام الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد زيارة الرئيس الصيني شي شينبينج إلى موسكو، في 20 مارس الفائت، وتزايد التقارير التي تشير إلى احتمال إقدام بكين على تقديم دعم عسكري لموسكو في الحرب الأوكرانية. وربما لا تستبعد هذه الاتجاهات أن تكون لدى موسكو رغبة في استقطاب دعم بكين لسياستها في سوريا، خاصة في ظل اهتمام بكين بالملفات الإقليمية الرئيسية في المنطقة في ضوء التطورات الأخيرة التي طرأت على الساحة الإقليمية، وهو ما يمكن أن تعتبره واشنطن محاولة لإرباك حساباتها وإضعاف موقعها على الساحة السورية.
4- مواصلة توجيه التهديدات المتبادَلة: لا ينفصل التوتر الحالي عن تصاعد التهديدات المتبادلة بين الطرفين. إذ أعلن الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في 31 مارس الفائت، عن وثيقة استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية الروسية أكد بمقتضاها وزير الخارجية سيرجي لافروف أن “موسكو سوف تستخدم القوة ضد كل مَن يهدد أمنها”. كما أعلنت وزارة الخارجية الروسية، في 21 فبراير الماضي، أن “العمل بشكل طبيعي مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً لم يعد ممكناً”. وفي مقابل ذلك، منحت الولايات المتحدة الأمريكية الأولوية لروسيا في سياسات الأمن القومي، حيث أكد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في 23 مارس الفائت، أن بلاده “تعتبر روسيا تحت قيادة بوتين مصدر تهديد شديد”. ومن هنا، يمكن فهم مساندة واشنطن قرار المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت، في 18 مارس الفائت، مذكرة توقيف بحق الرئيس بوتين، واتهمته بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
مسارات متقاطعة
ختاماً، يمكن القول إن اتساع نطاق القضايا الخلافية بين موسكو وواشنطن، واعتبار كل منهما للآخر مصدر التهديد الرئيسي له؛ يُشير إلى احتمال اندلاع مواجهات محدودة، مباشرة أو غير مباشرة، بين البلدين على الساحة السورية خصوصاً، لا سيما أن كلاً منهما يحتفظ بقوات عسكرية على الأرض السورية، وهو احتمال لا يمكن استبعاده، خاصة مع إعلان الرئيس السوري بشار الأسد خلال زيارته لموسكو، في 14 مارس الفائت، عن ترحيب بلاده بتعزيز الوجود العسكري الروسي على أراضيها، في الوقت الذي تعتبر الحكومة السورية، إلى جانب روسيا وإيران، أن الوجود الأمريكي “غير شرعي” باعتبار أنه لم يأت بناءً على طلب من جانب الأولى.
ومع ذلك، فإن مجمل ما سبق لا يعني إغلاق الباب نهائياً أمام إجراء حوار بين موسكو وواشنطن، خاصة أن الطرفين يدركان أن تصعيد التوتر إلى مستويات غير مسبوقة قد يفرض ارتدادات سلبية ربما تساهم في إرباك حساباتهما في مرحلة تشهد حالة من السيولة في أنماط التفاعلات التي تجري على الساحة الإقليمية.