مؤشرات كاشفة:
أسباب ضعف المشاركة العربية في اجتماع وزراء الخارجية بطرابلس

مؤشرات كاشفة:

أسباب ضعف المشاركة العربية في اجتماع وزراء الخارجية بطرابلس



عكس الحضور المحدود في اجتماع وزراء الخارجية العرب في طرابلس، في 22 يناير الجاري، والذي شارك فيه نحو ثلث الدول الأعضاء في الجامعة العربية، موقفاً عربياً شبه جماعي تجاه حالة الانقسام السياسي الليبي، وهو سيناريو كان متوقعاً في ضوء التطورات الخاصة بملف الأزمة الليبية داخل الجامعة العربية، والتنسيق العربي حيال دفع جهود تسوية الأزمة الليبية وفقاً لمقررات قمة الجزائر (نوفمبر 2022) التي أوصت بضرورة قيام الدول العربية بدور جماعي للإسهام في جهود التوصل إلى حل سياسي عبر الحوار للأزمة في ليبيا.

سابقة سياسية

ربما لم يحدث من قبل مشهد المقاطعة العربية لاجتماع وزاري بهذا العدد من الدول الأعضاء، بل تكاد تكون السابقة الأولى من نوعها التي ينعقد فيها اجتماع على مستوى مجلس الجامعة العربية بدون حضور الجامعة نفسها. فقد أكّدت الجامعة أنه لا يمكنها المشاركة في ظل غياب النصاب المقرر بأربعة عشر عضواً في الجامعة وإثبات حضورهم رسمياً.

وعلى الرغم من اختلاف النظر إلى الاجتماعات الوزارية على أنها اجتماعات بروتوكولية إذا ما قورنت باجتماعات القمم العربية؛ إلا أن إصرار حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا على عقد الاجتماع في طرابلس بهدف انتزاع مشروعية سياسية عربية، غير الانطباع تجاه مثل هذه الفعاليات.

وقد شنّت وزيرة خارجية حكومة الوحدة نجلاء المنقوش، هجوماً على الجامعة العربية، حيث اتهمتها بـ”تسييس” ميثاق الجامعة، وذلك على الرغم من أن أمانة الجامعة العربية لم تتخذ موقفاً مضاداً من حكومة الوحدة الوطنية، حيث شاركت في قمة الجزائر، وقبلت باعتلاء المنقوش منصة الاجتماع التحضيري للقمة بالقاهرة رغم الخلاف الذي وقع بينها وبين وزير الخارجية المصري سامح شكري على خلفية رفض الأخير ترأس حكومة منتهية الولاية لهذا الاجتماع. إلا أن أمانة الجامعة العربية لم ترد على تلك الاتهامات.

دلالات رئيسية

تعكس هذه المواقف دلالات رئيسية عديدة يتمثل أبرزها في:

1- إخفاق حكومة الوحدة في استقطاب تأييد عربي جماعي: بهدف كسب مشروعية البقاء في السلطة. وعلى الرغم من الإشارات الدبلوماسية بأن موقف مقاطعة أغلب الدول الأعضاء في الجامعة العربية مبني على أساس الحياد السياسي وعدم الانحياز تجاه أي من الحكومتين في ليبيا؛ إلا أنه يمكن اعتباره أيضاً قراراً عقابياً لحكومة الوحدة الوطنية التي تصر على البقاء في السلطة في الوقت الذي تتبنى فيه أغلب الدول العربية موقفاً مختلفاً ينسجم مع الدعوة إلى إنهاء المرحلة الانتقالية في ليبيا.

2- محاولة استغلال الحكومة المنافسة للموقف: فعلى الرغم من أن حكومة الوحدة الوطنية هي التي تعرضت للانكشاف السياسي في ظل الغياب العربي عن الاجتماع الوزاري، إلا أن رسائل الأعضاء المقاطعين للاجتماع لم تنطوِ في المقابل على دعم الحكومة المنافسة التي يقودها رئيس الوزراء المكلف من البرلمان فتحي باشأغا، حتى وإن سعى الأخير إلى توظيف الموقف بتوجيه الشكر للدول العربية التي لم تحضر.

3- رسائل ضمنية موحدة من الحاضر والغائب: لا يعكس مستوى الحضور انقساماً في الصف العربي تجاه الأزمة الليبية، حتى وإن تباينت وجهات النظر حيال الموقف من حكومة الوحدة الوطنية. فالمشاركون لم يمنحوا حكومة الوحدة المشروعية التي حاولت انتزاعها بعقد الاجتماع، بل إن معظم المشاركات أكدت على رسالة المقاطعين ذاتها، والتي تتمثل في ضرورة إنهاء الأزمة الليبية بالوصول إلى تسوية سياسية وتوافق يقود إلى انتخاب السلطة. بل واللافت في السياق ذاته، أنه عقب الاجتماع حرص بعض المشاركين على لقاء رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي وليس رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة.

4- تأثيرات مباشرة على توازنات القوى السياسية: من المتصور أن مشهد الاجتماع الوزاري العربي على النحو الذي خرج به سيشكل محطة فارقة بالنسبة لوضع حكومة الوحدة الوطنية. فوضعها قبل الاجتماع لن يكون هو نفسه بعد الاجتماع، في ظل تأكد الرفض العربي لاستمرار الأوضاع السياسية في ليبيا على ما هي عليه.

وربما تقاطع حكومة الوحدة حضور الاجتماع التشاوري التالي في مقر الجامعة العربية في القاهرة، وكذلك فإن موقف المقاطعة أضعف وضع حكومة الوحدة سياسياً في الداخل والخارج.

فداخلياً -على سبيل المثال لا الحصر- أشار المجلس الأعلى للدولة إلى أن حكومة “الوحدة فشلت في انتزاع شرعية ما”، ومن المتصوّر أن مجلس الدولة ربما كان الأقرب إلى تلك الحكومة، خاصةً في ظل التقارير التي أشارت إلى دور تركي للمصالحة بين الدبيبة وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة. وبالتالي لا يوجد ظهير قوي في الداخل لدعم بقاء حكومة الوحدة.

أما خارجياً، فحتى وإن كانت الحكومة تحظى بتأييد بعض القوى الغربية للبقاء في السلطة لحين إجراء الانتخابات، إلا أنه لا يمكن إغفال مدى تأثير قوة الموقف العربي على هذا النحو في المعادلة، وهي نقطة أيضاً ستضعها القوى الغربية في حسابات المعادلة المستقبلية، وقد يتغير موقفها من استمرار دعمها لحكومة الدبيبة، أو قد تستغل تلك القوى الموقف ذاته كورقة ضغط على الدبيبة في التعجيل بمسار الانتخابات.

كذلك من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنّه على الرغم من تمثيل البعثة الأممية والاتحاد الأفريقي في الاجتماع، إلا أن رسائل تلك المنظمات انصبت على أهمية التعجيل بإنهاء المرحلة الانتقالية، وأظهرت أن تواجدها لا يعكس تأييداً لاستمرار الأوضاع على ما هي عليه.

السيناريو التالي

لا يزال من المستبعد الرهان على حدوث انفراجة في المشهد السياسي الليبي المتأزم. فلا يمكن الرهان على أن الموقف السياسي لحكومة الدبيبة قابل للتغير، وأن بإمكانها التعاطي مع رغبة الأغلبية العربية في إنهاء المرحلة الانتقالية، وهو ما ظهر من خطاب المنقوش التي قسمت بدورها الدول العربية ما بين متعاطفين وغير متعاطفين مع حكومتها، وبالتالي فخطاب الحكومة ورد فعلها ربما لن يختلف كثيراً، وعلى الأرجح ستواصل العمل وفق السياسة نفسها، شأنها في ذلك شأن حكومة الوفاق السابقة التي لم تكن تحظى بتأييد عربي.

كذلك، يؤخذ في الحسبان أن مستقبل العملية السياسية في ليبيا لا يتوقف على حكومة الوحدة التي تمثل أحد أطراف الأزمة السياسية، ولا سيما في ظل استمرار التوتر بين مجلسي النواب والدولة حيال الانتهاء من القاعدة الدستورية. كما أن الوضع الأمني في ليبيا لا يزال غير مستقر، فقبيل الاجتماع كانت هناك معركة بالأسلحة الثقيلة بين الفصائل المسلحة في طرابلس، ومن الممكن أن تلجأ بعض الأطراف السياسية لاستغلال هذا الوضع بهدف الاستفادة من استمرار تأزم المشهد الأمني، حتى وإن حدثت انفراجة في المشهد السياسي الخاص بحل إشكالية القاعدة الدستورية، فستظل هناك حاجة إلى الاستقرار الأمني لإجراء العملية الانتخابية، وهو أمر غير مضمون. ختاماً، يمكن القول إن مشهد الاجتماع الوزاري العربي، وتداعياته، لا يشكل مفاجأة أو متغيراً طارئاً على المشهد الليبي، بل على العكس من ذلك يؤكد استمرار ديناميكيات الأزمة الداخلية والخارجية، وبالتالي لا يزال من المبكر إيجاد مخرج واقعي من “دوامة” الأزمة الليبية في الأمد القريب.