اكتسبت الزيارة التي قامت بها رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني إلى العاصمة الليبية طرابلس، في 28 يناير الفائت، أهمية وزخماً خاصاً لاعتبارين: أولهما، أنها جاءت في وقت تسعى فيه إيطاليا إلى تعزيز حضورها في منطقة شمال أفريقيا، خاصة مع تراجع الدور الفرنسي في منطقة الساحل. وثانيهما، أنها أثارت ردود فعل متباينة داخل ليبيا نفسها، بعد أن وجهت لها الحكومة المكلفة من البرلمان برئاسة فتحي باشأغا انتقادات حادة، واتهمتها بتبني “سياسة انتهازية”.
تطرح زيارة رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني إلى طرابلس العديد من الدلالات التي تكشف عن أهمية ليبيا في توجهات السياسة الخارجية الإيطالية الجديدة، بالنظر إلى حجم المصالح الحيوية فيها، بالإضافة إلى تأثيرات الأزمة الليبية على أمن ومصالح إيطاليا بسبب قربها الجغرافي. كما جاءت الزيارة في إطار تحركات روما لتعزيز دورها الخارجي، وموازنة نفوذ منافسيها الدوليين في صراعات الإقليم، وتأمين مصالحها النفطية، والبحث عن مصادر جديدة للطاقة في ظل التداعيات التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية.
تحولات لافتة
تزامنت زيارة ميلوني إلى ليبيا مع تحولات لافتة في تحركات السياسة الإيطالية الجديدة تحت قيادة حزب “إخوة إيطاليا” اليميني المتطرف، وظهر ذلك في الجهود التي تبذلها روما من أجل تنويع الشراكات مع القوى الإقليمية في المنطقة العربية، وخاصة القريبة من جوارها الجغرافي، وتلك التي تمثل سوقاً مهمة للطاقة. وهنا، يمكن فهم زيارة رئيسة وزراء إيطاليا إلى العراق في 24 ديسمبر الماضي، ثم زيارتها إلى الجزائر في 22 يناير الفائت. وتهدف التحركات الإيطالية تجاه هذه الدول إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية وتأسيس شراكات في قطاعات اقتصادية هامة، وتبني سياسات جديدة في مواجهة عمليات الهجرة غير النظامية، ومكافحة الإرهاب العابر للحدود.
اللافت في هذا السياق أيضاً، هو أن زيارة ميلوني تتوازى مع تطورات لافتة طرأت على الساحة الليبية، لا سيما فيما يتعلق بالتحركات المكثفة التي تقوم بها قوى دولية وإقليمية عديدة خلال المرحلة الراهنة، على نحو بدا جلياً في الزيارة التي قام بها مدير الاستخبارات الأمريكية ويليام بيرنز إلى ليبيا في 12 يناير الفائت، وبعدها بخمسة أيام الزيارة التي قام بها وفد تركي برئاسة رئيس الاستخبارات هاكان فيدان، فضلاً عن الدور الذي يمارسه المبعوث الأممي إلى ليبيا السنغالي عبد الله باتيلي، الذي أعلن، في مطلع الشهر نفسه، أنه ناقش مع السفير الفرنسي في طرابلس ضرورة تبني المجتمع الدولي نهجاً موحداً لدعم مسار مستدام للسلام والاستقرار في ليبيا.
كما جاءت الزيارة في سياق تحولات محلية في الداخل الليبي، أهمها دعوة مجلسي النواب والدولة في ليبيا، في 25 يناير الفائت، جميع القوى الوطنية إلى العمل معاً لتوحيد مؤسسات الدولة والوصول لمرحلة إجراء الانتخابات خلال العام الحالي. ومن هنا، يمكن القول إن روما تسعى حالياً إلى تعزيز حضورها في الترتيبات السياسية والأمنية التي يجري العمل على صياغتها في ليبيا، استعداداً للاستحقاقات القادمة التي قد تشهدها وتحظى باهتمام خاص من جانبها، لاعتبارات أمنية واستراتيجية واقتصادية عديدة.
أهداف رئيسية
يمكن القول إن ميلوني حاولت عبر زيارتها إلى ليبيا تحقيق أهداف رئيسية عديدة يتمثل أبرزها في:
1- اتخاذ إجراءات استباقية في الملفات الضاغطة: تبدي الحكومة الإيطالية اهتماماً خاصاً بمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية واللجوء، حيث تسعى إلى فرض قيود شديدة على المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين، وتحاول تحقيق ذلك من خلال توسيع نطاق التعاون مع دول المنطقة، واتخاذ إجراءات استباقية لمنع تدفق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا بشكل عام وإيطاليا على سبيل الخصوص.
وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني، في 23 يناير الفائت، أن “تحقيق الاستقرار في ليبيا يعد أمراً حاسماً لإبطاء الهجرة غير النظامية التي تعانيها إيطاليا”. وربما يمكن تفسير ذلك في ضوء ما تفرضه هذه الظاهرة من أعباء اقتصادية على الحكومة، فضلاً عن تداعياتها السلبية على الأمن الداخلي.
2- رفع مستوى التنسيق الأمني: لا تستبعد روما، على ما يبدو، أن تستغل التنظيمات الإرهابية استمرار الأزمة السياسية والصراع المسلح في ليبيا من أجل إعادة تعزيز نشاطها من جديد، وربما تتجه إلى محاولة استهداف المصالح الإيطالية في ليبيا، أو التحايل على القيود الأمنية التي تفرضها الدول الأوروبية من أجل الوصول إلى الأراضي الأوروبية وتنفيذ عمليات إرهابية داخلها، على غرار العمليات السابقة التي تم تنفيذها في باريس وبروكسل وغيرها.
ومن هنا، فإن الحكومة الإيطالية ترى أن التنسيق الأمني مع حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبد الحميد الدبيبة من شأنه أن يساهم في تقليص حدة التهديدات الإرهابية التي يمكن أن تتصاعد بسبب تعثر الجهود المبذولة من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة الليبية.
3- موازنة نفوذ المنافسين الدوليين: استهدفت زيارة ميلوني إلى ليبيا تعزيز الدور الإيطالي في الترتيبات التي يجري العمل على صياغتها في الأخيرة، خاصة في ظل وجود قوى أخرى يمثل بعضها خصوماً دوليين لروما. ويمكن القول إن تدخلات بعض تلك القوى أدت إلى إرباك حسابات روما، وهو ما تحاول ميلوني احتواء تداعياته عبر تلك الزيارة.
وربما لا ينفصل ذلك عن محاولة روما أيضاً تأكيد قدرتها على ملء الفراغ الذي سوف ينتج عن الانسحاب الفرنسي من منطقة الساحل، من خلال تقديم مقاربة جديدة تجاه التعامل مع التنظيمات الإرهابية، وهو ما يبدو جلياً في تصريحات ميلوني، في 5 ديسمبر الفائت، خلال حديثها في النسخة الثامنة من ملتقى “حوارات المتوسط” السنوي في روما، والتي قالت فيها أن بلادها “تستطيع قيادة مكافحة الإرهاب في أفريقيا وتعزيز التعاون والنمو الاقتصادي والتجاري بين الاتحاد الأوروبي ودول القارة”.
4- احتواء تداعيات الحرب الأوكرانية: يمثل ملف الطاقة أحد الملفات التي اكتسبت أهمية خاصة خلال الزيارة، لا سيما في ظل سعى إيطاليا، على غرار العديد من الدول الأوروبية، إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع أزمة انقطاع إمدادات الطاقة الروسية، كأحد ارتدادات استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية.
ومن هنا، يمكن فهم توقيع المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا اتفاقية لمدة 25 عاماً وبقيمة 8 مليارات دولار مع شركة “إيني” الإيطالية للطاقة، تتضمن توسيع نشاط الشركة لزيادة القدرة الإنتاجية لحقلين بحريين للغاز إلى نحو 800 مليون قدم مكعب يومياً.
جدل داخلي
يمكن القول إن زيارة ميلوني إلى طرابلس بقدر ما قد تسفر عن تعزيز حضور روما في الملف الليبي، فإنها في المقابل ربما تفرض تداعيات سلبية على مستوى التفاعلات السياسية التي تجري بين القوى السياسية الليبية. إذ أثارت الزيارة ردود فعل رافضة من جانب بعض القوى، على نحو بدا جلياً في إبداء حكومة فتحي باشأغا، في 24 يناير الفائت، استغرابها من زيارة ميلوني، وتأكيدها أن “الدولة الليبية لن تلتزم بأي اتفاقيات مشبوهة يُعد لها بين المؤسسة الوطنية الليبية للنفط وشركة إيني الإيطالية”، وهو ما يوحي بأن الأزمة الليبية لم تقترب بعد من مرحلة التسوية أو التوافق بين تلك القوى.