فرصة محتملة:
أسباب زيارة باتيلي إلى دول جوار الجنوب الليبي

فرصة محتملة:

أسباب زيارة باتيلي إلى دول جوار الجنوب الليبي



يتصدر إجلاء المقاتلين الأجانب عن الأراضي الليبية اهتمامات الفاعلين الأساسيين داخلياً وخارجياً، لا سيما أن هناك رهاناً أممياً على أن يتم ذلك قبل سبتمبر المُقبل؛ في ظل مساعٍ جدية لتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في الربع الأخير من العام الجاري. وفي هذا الإطار، قام المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، منذ 30 مارس الفائت، بجولة بين دول الجوار للجنوب الليبي، شملت السودان وتشاد والنيجر، لمتابعة ملف إجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة من مختلف مناطق ليبيا، والتنسيق مع حكوماتها فيما يتصل بالتعاون الأمني وتأمين الحدود، تمهيداً لتنظيم الاستحقاق الانتخابي.

وكما يبدو، يسعى باتيلي لتوفير دعم دول جوار ليبيا في الجنوب لإخراج المرتزقة المنتمين إلى كل منها، من البلاد؛ خاصة أن الجهود التي يبذلها المبعوث الأممي تأتي لمساعدة اللجنة العسكرية الليبية “5+5” في مهامها؛ وفي الوقت نفسه، تتزامن مع جهود أخرى لحل الأزمة السياسية التي طال أمدها في البلاد.

رسم الخرائط

كانت اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، قد اتفقت، خلال اجتماعها بالقاهرة، في 7 فبراير الماضي، على اعتماد آلية متكاملة بشأن جمع وتبادل البيانات والمعلومات حول المرتزقة والمقاتلين الأجانب في ليبيا. واعتبرت البعثة الأممية أن اتفاق اللجنة العسكرية، في القاهرة، يُمثل تقدماً إيجابياً لتحقيق الاستقرار في ليبيا ودول جوارها.

وسبق ذلك، موافقة اللجنة العسكرية، في أكتوبر من العام الماضي، على إنشاء لجنة فرعية تعمل على رسم خرائط الجماعات المسلحة في البلاد، وتحدد أماكن المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وتعمل على انسحابهم من البلاد، وفقاً للبند الرابع من اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم توقيعه عام 2020. وينص هذا البند أيضاً على عملية حصر وتصنيف المجموعات والكيانات المسلحة في كامل ربوع ليبيا، سواء المنضوية منها تحت شرعية الدولة، أو غير المنضوية، وتوضيح جميع معلوماتها (قادتها، عدد أفرادها، وتسليحها، وأماكن تواجدها).

واللافت، أن الاجتماع الذي استضافته القاهرة حضرته لجنة التواصل الليبية، ونظيراتها من السودان والنيجر، برعاية عبد الله باتيلي، قد أقرَّ اعتماد آلية متكاملة للتنسيق المشترك، بشأن جمع وتبادل البيانات والمعلومات عن المرتزقة والمقاتلين الأجانب. وبحسب تقديرات أممية، فإن عدد المقاتلين الأجانب قد يصل إلى 20 ألف مرتزق، من جنسيات مختلفة، على رأسهم السوريون والروس والسودانيون والتشاديون والنيجريون.

إلا أن الواضح أن إخراج المرتزقة من الجنوب الليبي، رغم إعلان دول الجوار الثلاث، إمكانية المساعدة في سحب المقاتلين التابعين لها من الأراضي الليبية، يمثل مهمة صعبة؛ من حيث إن معظم هؤلاء المرتزقة هم، في الأساس، من عناصر المعارضة المسلحة لهذه الدول، التي اتخذت من ليبيا ملاذاً آمناً.

ولعل هذا يأتي في مقدمة الأسباب الدافعة لقيام المبعوث الأممي بزيارة هذه الدول الثلاث، بغية الاتفاق على تنفيذ الاتفاق الخاص بآلية تبادل البيانات والمعلومات حول المرتزقة والمقاتلين الأجانب في جنوب ليبيا؛ وتوفير ظروف سحبهم وإخراجهم من هناك.

دوافع متعددة

يمكن تفسير حرص باتيلي على القيام بهذه الجولة في ضوء عدد من الدوافع التي يتمثل أبرزها في:

1- التخوف من انفلات الأوضاع في الجنوب: لأن الجنوب الليبي له أهمية كبرى كموقع جيوسياسي، تبدو التخوفات من دخوله إلى دائرة الصراع، وانفلات الأوضاع فيه. والملاحظ، أن إشكالية سحب المرتزقة الأفارقة من منطقة الجنوب، تكمن في جانبين: الأول، أن الدول التي ينتمي إليها هؤلاء المقاتلون تبدو غير مستعدة لاستقبالهم، بسبب الاضطرابات الأمنية التي تعيشها، وما يمكن أن يساهم به هؤلاء المقاتلون، في حال عودتهم، من ازدياد الاضطرابات.

والثاني، أنهم موزعون على طرفي الصراع، مثل الجنجويد، ومرتزقة تشاد، على عكس الحال من المرتزقة السوريين، وقوات فاغنر الروسية؛ فالمرتزقة السوريون يتواجدون في الغرب الليبي، وتتواجد قوات فاغنر في الشرق. وهنا، يبدو المتغير الذي قد يُسفر عن مخاطر؛ إذ في حال اُجريت الانتخابات، وأسفرت النتائج عن فوز أحد الأطراف من غير المقبولين من الطرف الآخر، يمكن أن يشتعل الوضع، ويدخل الجنوب إلى دائرة الصراع.

2- تحريك قضية إخراج المرتزقة قبل الانتخابات: تُعدُّ قضية المرتزقة والقوات الأجنبية في ليبيا من الشواغل الرئيسية للبعثة الأممية، كما لغالبية الأطراف الدولية المُطلعة على ملف الأزمة بالبلاد، فضلاً عن المُنخرطة فيها. ويُشار هنا، إلى أن باتيلي استبق زيارته لدول جوار الجنوب الليبي بالاجتماع في تونس، منتصف مارس الماضي، مع لجان التواصل من ليبيا والسودان وتشاد والنيجر، بشأن إطلاق آلية تبادل البيانات والمعلومات لسحب المرتزقة والمقاتلين الأجانب؛ وذلك تماشياً مع التزامها السابق في القاهرة.

ومن ثم، تأتي جولة باتيلي إلى دول جوار الجنوب سعياً لتحريك قضية المرتزقة قبيل إجراء الاستحقاق الانتخابي المنتظر؛ خاصة أن سحب هؤلاء يُمثل ضرورة لإزالة واحدة من أهم العقبات التي تُعرقل المسار السياسي في ليبيا، ما أدى إلى تأجيل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي كانت مُقررة قبل أكثر من عام.

3- مُراقبة دول الجوار لحدودها مع جنوب ليبيا: تأتي محاولة التوافق مع هذه الدول حول مراقبة حدودها مع ليبيا ضمن أهم الأسباب التي دفعت المبعوث الأممي للقيام بزيارتها؛ حيث دعا باتيلي، من خلال حسابه على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، في 30 مارس الفائت، الدول المجاورة لليبيا لبذل جهود جماعية لمراقبة حدودها وتأمينها، حتى لا تكون ملاذاً للمجموعات الخارجة عن القانون، والجماعات الإرهابية، والهجرة غير الشرعية.

وفي السودان، أول دولة يزورها باتيلي في جولته، أكد المبعوث الأممي، خلال لقائه رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أن أمن واستقرار ليبيا هو امتداد لأمن واستقرار دول الجوار؛ مُبيناً أن إجلاء الحركات المسلحة الأجنبية والمقاتلين الأجانب من ليبيا يحتاج إلى تضافر جهود دول الجوار، لتكثيف مراقبة حدودها خشية أن تتحول إلى ملاذ للجماعات الإرهابية؛ ومضيفاً في الوقت نفسه: “نحن بحاجة إلى العمل مع شركائنا لمواجهة هذا التحدي”.

4- دعم دول الجوار لمهام البعثة الأممية: بهدف المساهمة في دعم بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، واللجنة العسكرية المشتركة، لأجل تنفيذ خطة العمل المتعلقة بانسحاب المرتزقة الأجانب، عقد المبعوث الأممي، خلال جولته في دول جوار الجنوب الليبي، سلسلة من الاجتماعات مع كبار المسئولين. ففي السودان، وإضافة إلى لقائه بالبرهان، التقى باتيلي بوزير الدفاع السوداني اللواء ياسين إبراهيم، الذي أكد على “التزام وزارته بمواصلة التعاون المشترك، ودعم الانسحاب المنسق لجميع العناصر من المقاتلين، وإعادة إدماجهم في القوات النظامية”.

وفي تشاد، وعبر حسابه على “تويتر”، قال باتيلي: “حظيت في أنجامينا باستقبال الرئيس الانتقالي لدولة تشاد، الجنرال محمد إدريس ديبي، الذي أعرب عن دعم بلاده الكامل لعملية السلام، التي تيسرها الأمم المتحدة في ليبيا”. أما في النيجر، فقد عقد المبعوث الأممي لقاءات مع رئيس الجمهورية محمد بازوم، ووزيرى الدفاع والداخلية؛ ولفت باتيلي، عبر تغريدات له على موقع “تويتر”، إلى أنه ناقش مع وزير الدفاع القاسوم إنداتو، أهمية تعزيز أمن الحدود بين ليبيا والنيجر، لمنع الاتجار غير الشرعي العابر للحدود، والأنشطة الإجرامية التي تؤثر سلباً على الأمن القومي لكلا البلدين.

5- تهيئة ظروف مناسبة لإجراء الانتخابات: تستعجل البعثة الأممية والأطراف الليبية اتخاذ خطوات جادة في ملف انسحاب المرتزقة والمقاتلين الأجانب قبيل الانتخابات، مخافة تأثير وجودهم على الانتخابات ونتائجها؛ لأن إجرائها في ظل وجود عناصر المرتزقة، سواء العناصر الأفريقية المسلحة، أو العناصر المحسوبة على أحد طرفي الصراع، مثل المرتزقة السوريون أو قوات فاغنر الروسية، سيكون عنصراً قد يشعل الصراع، لا سيما في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية.

وبالتالي، كانت زيارة باتيلي إلى دول الجوار للجنوب الليبي محاولة لتهيئة ظروف مناسبة لإجراء الانتخابات، من حيث إن الاتفاق على إخراج المرتزقة يُعد أحد أركان العملية السياسية؛ لأن هؤلاء، إضافة إلى المليشيات المسلحة، يمثلون أحد عوامل عدم الاستقرار، خاصة أن لهم تأثير كبير على القرار السياسي في ليبيا.

خطوة تمهيدية

في هذا السياق، يمكن القول إن جولة باتيلي الجديدة في الوقت الذي تُمثل فيه خطوة صحيحة، لم يفعلها من سبقوه من مبعوثين أمميين؛ فهي، في الوقت نفسه، تُعبر عن “خطوة تمهيدية” لابد منها، لتوفير المناخ الملائم لإجراء الانتخابات في ليبيا. ورغم ذلك، لا يمكن التعويل على هذه الخطوة بشكل كامل، في هذا الملف، كون تلك الدول لا تتحكم في المرتزقة الذين يتواجدون على الأراضي الليبية، بشكل فعال؛ فضلاً عن أن هؤلاء يمثلون عصابات مارقة وخارجة عن شرعية حكومات تلك الدول. وبالتالي، فإن حل هذه المعضلة يحتاج إلى تدخل من جانب قوى إقليمية ودولية معنية بدعم الاستقرار في ليبيا على المستويين السياسي والأمني وتعزيز فرص إجراء الانتخابات في المرحلة القادمة.