استراتيجية جديدة:
أسباب تزايد الدعم الأمني الأمريكي لبوركينافاسو

استراتيجية جديدة:

أسباب تزايد الدعم الأمني الأمريكي لبوركينافاسو



يأتي الإعلان عن رفع مستوى الدعم الأمني الأمريكي لبوركينافاسو في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة التهديدات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، وخاصةً بعد الإعلان الفرنسي عن سحب قوات مكافحة الإرهاب من مالي والنيجر، بالتوازي مع استمرار التحركات الروسية لتعزيز النفوذ والحضور العسكري في المنطقة. ومن ثمّ يبدو أن الإعلان الأمريكي عن تقديم منحة عسكرية لواجادوجو يستهدف تحقيق عدة أهداف، من أبرزها: تعزيز الدور الأمني الأمريكي في مكافحة الإرهاب، وملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الفرنسي في المنطقة، وموازنة النفوذ الروسي المتنامي.

دوافع عديدة

أعلن القائم بأعمال السفير الأمريكي في بوركينافاسو، إيريك ويتيكر، في 19 يناير الجاري، عن تسليم منحة أمريكية تتكون من 35 سيارة و60 دراجة نارية تصل قيمتها إلى أكثر من مليار فرنك غرب أفريقي (أي ما يعادل أكثر من 1.5 مليون دولار أمريكي)، إلى وحدات التدخل الخاصة في الشرطة والدرك الوطني في بوركينافاسو، وذلك بالتوازي مع تزايد التوقعات بارتفاع قيمة الدعم الذي تقدمه واشنطن إلى واجادوجو خلال عام 2024. ويمكن تفسير تزايد الاهتمام الأمريكي بتقديم دعم أمني لبوركينافاسو في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تعزيز التعاون مع النظام الجديد: استطاع الرئيس الانتقالي، الجنرال إبراهيم تراوري، في 30 سبتمبر 2022، السيطرة على السلطة والانقلاب على الرئيس بول هنري دامبيا، الحليف السابق لفرنسا في بوركينافاسو، بينما يعد الجنرال تراوري من أهم حلفاء روسيا، ويتبنى سياسة مناهضة للسياسات الغربية في المنطقة. ومن هنا، يبدو أن واشنطن تحاول عبر هذه الخطوات بناء علاقات وثيقة مع النظام الجديد في واجادوجو وربما توظيف انشغال روسيا خلال الفترة الحالية بإدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا لتحقيق هذا الهدف.

2- ملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الفرنسي: شهدت العلاقات بين فرنسا وبوركينافاسو توتراً شديداً خلال الفترة الأخيرة، بسبب الموقف الفرنسي من الانقلاب العسكري الذي قاده تراوري ضد حليفها دامبيا في 30 سبتمبر 2022، على نحو دفع تراوري إلى توجيه اتهامات للحكومة الفرنسية بالتدخل لدعم دامبيا، بينما طالبت السلطات الانتقالية بسحب القوات الفرنسية من بوركينافاسو، وفرضت قيوداً على نشاط وسائل الإعلام الفرنسية في البلاد. لذلك يبدو أن الولايات المتحدة تعمل على تعزيز تحركاتها لملء الفراغ الناتج عن الانسحاب الفرنسي، خاصة أن فرنسا ظلت لفترة طويلة تعتبر منطقة الساحل منطقة نفوذ خاصة بها.

3- موازنة النفوذ الروسي المتنامي: تبدي واشنطن قلقاً واضحاً إزاء توسع نشاط موسكو في المنطقة، وخاصة في ظل العلاقات القوية التي تؤسسها الأخيرة مع التحالف الثلاثي، الذي يضم مالي والنيجر وبوركينافاسو، فضلاً عن الصفقات العسكرية التي وقعتها مجموعة “فاجنر” مع مالي وسعت إلى إبرامها مع النيجر وبوركينافاسو، إلى جانب صفقات بيع السلاح الروسي لدول المنطقة. ومن ثم تعمل واشنطن على تعزيز تعاونها الأمني ووجودها العسكري في بوركينافاسو، من أجل موازنة الدور والنفوذ الروسي في هذا السياق، الذي يمكن أن يفرض تداعيات سلبية على مصالحها.

4- مواصلة الدور الأمريكي في مكافحة الإرهاب: وخاصة مع تصاعد حدة التهديدات الإرهابية في بوركينافاسو ومنطقة الساحل الأفريقي، عقب سحب فرنسا قواتها من النيجر، مما زاد من المخاطر المحتملة التي يمكن أن تتعرض لها المصالح الأمريكية في المنطقة. لذلك تسعى الولايات المتحدة لدعم قدرات الجيش المالي في مواجهة الإرهاب. وقد أكد القائم بأعمال السفير الأمريكي في بوركينافاسو، إيريك ويتيكر، أن دعم بلاده للأخيرة في حربها ضد الإرهاب تضاعف من 1.2 مليار فرنك عام 2018، ليصل عام 2023 إلى أكثر من 8.4 مليارات فرنك، فيما ينتظر أن يصل خلال العام الجاري (2024) إلى أكثر من 9.6 مليارات فرنك.

تداعيات محتملة

من المتوقّع أن تفرض هذه التحركات الأمريكية انعكاسات على المشهدين الأمني والسياسي في المنطقة، وذلك على النحو التالي:

1- التفاوض على تأسيس قواعد أمريكية في بوركينافاسو: يأتي الإعلان عن هذه المنحة العسكرية الأمريكية بعد أيام قليلة من الإعلان عن بناء قواعد للطائرات المسيرة في المنطقة، لذلك يتوقع أن تستخدم الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية لدول منطقة الساحل الأفريقي من أجل التوصل إلى صفقات عسكرية تضمن موافقة هذه الدول على السماح ببناء قواعد للمسيرات الأمريكية على نحو ما فعلت في النيجر، خاصة أن القادة العسكريين الجدد في بوركينافاسو لم يتبنوا موقفاً عدائياً تجاه الولايات المتحدة مثلما حدث مع فرنسا، حيث طالبت بوركينافاسو القوات الفرنسية بمغادرة البلاد، في حين أن الولايات المتحدة تبنت موقفاً براجماتياً تجاه الانقلابات العسكرية في الساحل الأفريقي وتواصلت مع القادة الجدد وعملت على دعمهم أمنياً في مواجهة التهديدات الإرهابية في المنطقة.

2- تعزيز إجراءات نشر قوات روسية جديدة بالمنطقة: يتوقع أن تتجه موسكو، رغم انشغالها بإدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، إلى تسريع إجراءات نشر الفيلق العسكري الأفريقي في المنطقة، وخاصة في ظل تصاعد حدة التنافس الأمريكي- الروسي، حيث كشفت تقارير روسية وأفريقية عن عزم موسكو نشر قوات جديدة في المنطقة، وأن ذلك سيتم من خلال تشكيل فيلق عسكري جديد تحت مسمى الفيلق الأفريقي، وسوف تعمل موسكو على نشر هذه القوات في ليبيا ودول الساحل وأفريقيا الوسطى لدعم استقرار النظم الحليفة وحماية مصالحها في هذه الدول.

3- تصاعد حدة العمليات الإرهابية ضد المصالح الأمريكية: كان لافتاً خلال الفترة الماضية أن الهجمات الإرهابية ضد المصالح الأمريكية في المنطقة تراجعت بشكل ملحوظ، على نحو يمكن تفسيره في سياق تبني الولايات المتحدة سياسة تقليص الانخراط في عمليات مكافحة الإرهاب والاعتماد على استراتيجية التدخل المحدود. لذلك من المتوقع أن تنظر التنظيمات الإرهابية للخطوة الأمريكية الجديدة الخاصة بتقديم دعم عسكري لجهود مكافحة الإرهاب، على أنها تمثل مؤشراً لتصعيد أمريكي ضدها، وبالتالي قد تتجه إلى رفع مستوى استهدافها للمصالح الأمريكية في المنطقة مجدداً.

على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن أهمية منطقة غرب أفريقيا في الاستراتيجية الأمريكية تتزايد تدريجياً، بعد أن كانت الولايات المتحدة قد بدأت في الاعتماد على سياسة تقليص الاهتمام بالأزمات التي تشهدها العديد من الأقاليم حول العالم. إلا أن التطورات التي طرأت على المستويين الإقليمي والدولي خلال الأعوام الأخيرة ساهمت في دفع واشنطن نحو إجراء تغيير في هذه الاستراتيجية باتجاه العودة مجدداً إلى تعزيز الانخراط في تلك الأزمات.