لم تفلح الضغوط التي تمارسها مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” المعروفة بـ”قسد” في إحداث انفراجة كبيرة في ملف إعادة مقاتلي “داعش” الأجانب وأسرهم في السجون والمخيمات التي تحت سيطرتها، في مناطق شمال شرقي سوريا، إلى بلادهم، رغم أن دولاً عديدة اتجهت إلى استعادة بعض مواطنيها، مدفوعة بهجوم التنظيم على سجن غويران في 20 يناير 2022.
وبقدر ما يفرض استمرار احتجاز الآلاف من عناصر “داعش” ضغوطاً وتحديات أمنية لـ”قسد”، فإنه يفرض أيضاً تهديدات بالنسبة للعراق، في ظل تخوفات من تمكن التنظيم من تحرير بعض عناصره من السجون أو المخيمات المنتشر بعضها باتجاه الحدود مع العراق، وبالتالي إعادة الزخم لنشاط “داعش”، اعتماداً على توجيه العناصر لاستئناف النشاط العملياتي.
ورغم تحول أولويات المواجهة داخل التحالف الدولي لمواجهة “داعش” بعيداً عن نطاق “القيادة المركزية” للتنظيم في العراق وسوريا، باتجاه النشاط الإرهابي لـ”داعش” في القارة الأفريقية، إلا أن ملف تفكيك السجون والمخيمات بشمال شرقي سوريا، ظل يحتل أولوية داخل استراتيجية المواجهة الشاملة ضد التنظيم، وهو ما برز خلال الاجتماع الأخير في السعودية في 8 يونيو الجاري.
دوافع عديدة
يمكن النظر إلى تصريح وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، في كلمته خلال اجتماع “التحالف الدولي”، بأن حكومة بلاده أعادت 3 آلاف مسلح عراقي محتجز في سوريا، في إطار محاولة الضغط على الدول لاستعادة عناصرها، إذ يحظى ملف ترحيل المقاتلين الأجانب إلى دولهم الأصلية بأهمية خاصة بالنسبة للعراق، في ضوء الأسباب التالية:
1- احتمالات التحول من وضع استثنائي إلى دائم: لم يتطرق البيان الختامي لاجتماع التحالف الدولي إلى مسألة ترحيل المقاتلين الأجانب من سوريا إلى دولهم الأصلية، كما لم يدع إلى تفكيك المخيمات والسجون التي تضم عناصر “داعش” وأسرهم. في المقابل، فإنه ركز على جهود إعادة الاستقرار للمناطق المحررة من قبضة التنظيم، وتقديم المساعدات الإنسانية، وتحسين التدابير الأمنية.
وتثير عدم الدعوة الصريحة من قبل “التحالف الدولي” للدول لاستعادة عناصرها التي انضمت لـ”داعش” قبل أكثر من 10 سنوات، تخوفات من استمرار الوضع الاستثنائي في شمال شرقي سوريا بالنسبة للسجون والمخيمات، وتحوله إلى وضع دائم مع مرور الوقت، والاكتفاء بتحسين القدرات الأمنية وتقديم التمويلات اللازمة ضمن مخططات دعم الاستقرار في المناطق المحررة.
2- ضغوط غير كافية لترحيل عناصر “داعش”: عقب هجوم تنظيم “داعش” على سجن غويران، لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إجراء تعديل في استراتيجيات مكافحة الإرهاب في شمال شرقي سوريا خلال العام الماضي، خاصة عقب تراجع العمليات التي تم تنفيذها ضد التنظيم في عامي 2020 و2021 خلال فترة تفشي جائحة كورونا، بما ساهم في عملية تكيف مرحلي لمجموعات التنظيم في سوريا.
وبعيداً عن المواجهة العسكرية والعمليات النوعية لتفكيك شبكات وخلايا التنظيم، فإن قائد “القيادة المركزية” الأمريكية الجنرال مايكل كوريلا تفقد المخيمات التي تضم أسر عناصر “داعش” خلال العام الماضي، وأكد على ضرورة تفكيك تلك المخيمات وعودة تلك العناصر إلى دولهم الأصلية.
ودفعت العراق إلى ضرورة ترحيل عناصر “داعش” الأجانب من سوريا إلى دولهم الأصلية، أكثر من مرة، ودعت القوى الدولية إلى ممارسة ضغوط على بعض الدول في هذا السياق، وهو ما بدا جلياً خلال لقاء مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي مع السفيرة الأمريكية في بغداد ألينا رومانوسكي في 8 يونيو 2022. ورغم حلحلة الموقف في ملف استعادة الدول لمواطنيها من سوريا، إلا أنه اقتصر بشكل رئيسي على النساء والأطفال، بما يوحي بأن الضغوط لم تساهم في إحداث انفراجة كبيرة في هذا السياق.
3- تشدد بعض الدول في استعادة مواطنيها: اتسمت عملية استعادة الدول لعناصرها الذين انخرطوا في عمليات إرهابية بسوريا والعراق، منذ العام الفائت، بالبطء، على خلفية رفض حكومات بعض الدول هذه الخطوة، خاصة مع سحب الجنسيات من بعضهم أو الاتجاه لاتخاذ هذه الخطوة كما هو الحال مع بريطانيا، لا سيما مع حاملي الجنسية المزدوجة.
كما أن عملية إعادة العناصر وأسرهم إلى دولهم الأصلية تواجه عقبات داخل بعض الدول، في إطار معارك قانونية داخل تلك الدول، بين الحكومات والقضاء، ونظر كل حالة من تلك العناصر أو الأسر بشكل منفرد، بما يضع عقبات في عملية استعادة تلك العناصر على دفعات كبيرة، إذ تتجه بعض الدول إلى إجراء مراجعة أمنية دقيقة، لبحث حجم التهديدات الأمنية الناجمة عن استعادة تلك العناصر.
ولكن بشكلٍ عام، فإن الدول الأوروبية تدفع لعدم الاستجابة الكاملة للضغوط المفروضة عليها لاستقبال مواطنيها في سوريا، رغم أن هناك تقديرات غير رسمية تشير إلى أن 30% من المقاتلين من دول أوروبية عادوا إلى دولهم منذ عام 2019، إلا أن ثمة رفضاً لاستقبال العناصر المتبقية من قبل تلك الدول، في حين اقتصرت الانفراجة على استقبال النساء والأطفال بأعداد محدودة.
4- استمرار قدرة التنظيم على تنفيذ عمليات إرهابية: رغم إشارة البيانات الرسمية الصادرة عن “القيادة المركزية” الأمريكية، في إفادتها الأخيرة مطلع شهر أبريل الماضي، إلى تراجع النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” في العراق وسوريا على حد سواء،إذ انخفض النشاط في العراق بواقع 68% وفي سوريا بواقع 55% خلال الفترة من يناير إلى أول أسبوع في شهر أبريل الماضي، مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2022، إلا أن التنظيم لا يزال قادراً على تنفيذ عمليات إرهابية في البلدين.
ويتسم تنظيم “داعش” بالقدرة على التكيف الميداني مع المتغيرات في ضوء مواجهة عمليات مكافحة الإرهاب، وتحديداً على مستوى مرحلة “القتال من أجل البقاء”، التي تشير إلى تنفيذ عمليات إرهابية في حدود ما يسمح باستمرار النشاط وإثبات الوجود، قبل محاولة ترتيب الصفوف وتكثيف النشاط، إذ تمكن التنظيم من إعادة تكثيف النشاط خلال فترة تراجع عمليات مكافحة الإرهاب وقت تفشي جائحة كورونا، عقب إعادة التموضع بعد معركة الباغوز عام 2019، والتي فقد خلالها الأراضي التي كانت تحت سيطرته.
وبالتالي، فإن تمكن التنظيم من تحرير بعض عناصره المحتجزة في السجون قد يؤدي إلى استعادة النشاط العملياتي بصورة كبيرة، في ضوء توظيف العناصر المحررة، بغض النظر عن آليات ذلك، سواء في اقتحام السجون أو عمليات الهروب.
5- اتجاه “الإدارة الذاتية” لمحاكمة العناصر الأجنبية: في ضوء عدم الاستجابة الملحوظة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأعضاء في التحالف لاستقبال مواطنيهم المحتجزين في السجون والمخيمات بشمال شرق سوريا، وعقب يومين تقريباً من اجتماع “التحالف الدولي”، أعلنت “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، البدء في محاكمة المقاتلين الأجانب في السجون تحت سيطرتها، إذ يقبع نحو 10 آلاف مقاتل يشتبه في انضمامهم لـ”داعش”.
واعتبرت “الإدارة الذاتية” أن هذه الخطوة جاءت في ظل عدم تلبية “المجتمع الدولي لمناشدات الإدارة لتسلم المقاتلين”، غير أن ذلك ينطوي على عقبات قانونية، تتعلق بحدود قدرة “الإدارة الذاتية” على إجراء محاكمات لهذا العدد من العناصر، وتحت أي توصيف، خاصة أنها لا تتمتع بصفة قانونية داخل الدولة وعلى المستوى الدولي، إضافة إلى محدودية القدرات اللازمة لإجراء عمليات المحاكمة ذاتها على المستوى القضائي. وبشكلٍ عام، فإن هذه الخطوة ربما جاءت لتفرض ضغوطاً على الدول التي ترفض استقبال مواطنيها من السجون والمخيمات بسوريا، إلا أنها قد تعطي انطباعاً باستمرار الأزمة لفترة طويلة مقبلة.
ارتدادات محتملة
وأخيراً، رغم إعلان العراق عن النجاح في تحجيم النشاط العملياتي لتنظيم “داعش” على أراضيها، في ضوء تفكيك الخلايا الإرهابية واستهداف “الملاذات الآمنة” للتنظيم، واستعادة السيطرة على مناطق كانت معقلاً للأخير، بما يشير إلى حجم التقدم المحرز في عمليات مكافحة الإرهاب، إلا أن السجون والمخيمات التي تضم الآلاف من عناصر “داعش” وأسرهم، تمثل مصدر تهديد مستمراً، وهو ما لا ينفصل عن استمرار المخاوف من مراحل التحول الكبرى على الساحة السورية، وانعكاساتها على الحالة الأمنية، بما يمكن أن يؤدي إلى هروب بعض عناصر التنظيم أو تحريرهم بفعل عمليات إرهابية، على نحو سوف يفاقم من حدة التهديدات الأمنية.