إعادة توازن:
أسباب الانفتاح الروسي على “الأطراف المتعارضة” في ليبيا

إعادة توازن:

أسباب الانفتاح الروسي على “الأطراف المتعارضة” في ليبيا



في الوقت الذي كان المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الليبي، يلتقي فيه مع نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكيروف، في بنغازي، في 2 ديسمبر الجاري، كان رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، محمد تكالة، يُنهي زيارته إلى موسكو، بعد لقاءات جمعته بعدد من كبار المسئولين الروس.

وكما يبدو، فإن ثمة تنامياً واضحاً بدأ في التشكل للنفوذ الروسي على الساحة الليبية، عبر الانفتاح على الأطراف المتعارضة هناك. واللافت في هذا السياق أنه في الوقت الذي تتشابك فيه مجموعة من العوامل الدافعة إلى الاهتمام الروسي بهذه الساحة، فإن محاولات روسيا تأكيد حضورها في الملف الليبي تواجه إشكاليات لا تبدو هينة.

فإضافة إلى المحاولة الروسية لإعادة تشكيل الموقف من الأطراف المتعارضة، يأتي تفعيل النفوذ الروسي والتأكيد على التواجد العسكري في شرق ليبيا، ضمن أهم العوامل التي تؤكد على أهمية ليبيا الجيوسياسية والاقتصادية بالنسبة إلى روسيا. ومن جهة أخرى، تتبدى الإشكاليات في تبعات الصراع الدولي القائم على الأرض الليبية، فضلاً عن تداعيات التنافس الروسي-الأمريكي في منطقة المتوسط.

دوافع رئيسية

تتعدد العوامل الدافعة إلى الاهتمام الروسي بالساحة الليبية، ومحاولة استهداف التوازن في العلاقات مع مختلف الأطراف الليبية، ويتمثل أبرزها في:

1- التواصل مع القوى السياسية: تُظهِر روسيا من خلال دعوتها لرئيس المجلس الأعلى للدولة لزيارتها، مدى التطور الحاصل في علاقاتها مع الأطراف الليبية المتعارضة، في غرب وشرق البلاد، خاصة أن دعوة محمد تكالة جاءت في توقيت مُتقارب مع اللقاء الثالث للمشير حفتر، في بنغازي، مع نائب وزير الدفاع يفكيروف، إضافة إلى لقائهما في موسكو أثناء زيارة حفتر، في نهاية سبتمبر الماضي.

وكما يبدو، تسعى روسيا إلى ترجمة هذا التطور في العلاقات، عبر محاولة ممارسة دور إيجابي بين الأطراف المتنازعة، وهو ما يتضح في تصريحات تكالة في موسكو، حيث لفت في مقابلة تلفزيونية إلى أنه “بإمكان روسيا أن تلعب دور الوسيط بين الأطراف الليبية كافة، من خلال علاقاتها”.

2- محاولة تفعيل النفوذ الروسي: تستهدف موسكو تحقيق تقدم ملموس في ترسيخ تواجدها في ليبيا، في غرب البلاد كما في شرقها، بما يعني أنها تحاول تجاوز مسألة الدعم التقليدي لقائد الجيش الليبي، إلى الاقتراب من الأطراف السياسية في غرب ليبيا.

والمُلاحظ أن الأمر بالنسبة إلى روسيا لا يتوقف عند حدود توسيع نطاق النفوذ الدبلوماسي، بقدر ما هو محاولة للانخراط في تفاعلات الساحة الليبية عبر التواصل مع كافة الأطراف، بما في ذلك رئيس حكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية عبد الحميد الدبيبة، الذي من المنتظر أن يزور موسكو مطلع العام القادم.

3- تأكيد التواجد عسكرياً في شرق ليبيا: رغم نفي المسئولين الروس استهداف بناء قاعدة عسكرية في ليبيا، إلا أن منفذاً بحرياً على سواحل المتوسط، في شرق ليبيا، يُمثل أحد الأبعاد الاستراتيجية للتحركات الروسية، في منطقة المتوسط وشمال أفريقيا، من منظور مدى التأثير الممكن على جنوب أوروبا، ومدى ما تُتيحه ليبيا من فرص لوجستية واسعة في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة إلى أوروبا والولايات المتحدة أيضاً.

ولعل وضع الملف الليبي، منذ عام 2015، تحت مسئولية نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، وهو الرجل المُكلف بمنطقة الشرق الأوسط في الدبلوماسية الروسية، يؤكد مدى الأهمية التي توليها موسكو لهذه الدولة التي تطل سواحلها على أوروبا.

4- تأثير الأهمية الاقتصادية لليبيا: لا تكتفي روسيا بأن تكون جزءاً من المعادلة في ليبيا، وتثبيت تواجدها العسكري هناك، لتكون نقطة انطلاق إلى العمق الأفريقي وحجر الأساس لحماية مصالحها، ولكن إضافة إلى ذلك تهتم روسيا بالموارد الليبية، خاصة بما يتوافر لديها من خبرة في قطاع الطاقة الذي تزخر به ليبيا.

ففضلاً عن الرغبة الروسية في محاولة استعادة بعض العقود التي تقدر بمليارات الدولارات، والتي كانت قد أبرمتها مع نظام الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي، فهي تنظر إلى شرق ليبيا باعتباره منبعاً مهماً للنفط، من خلال 46.4 مليار برميل من احتياطي النفط المؤكد، الذي يُعد الأكبر في أفريقيا والعاشر عالمياً.

إشكاليات متعددة

مثلما تتعدد العوامل الدافعة إلى الاهتمام الروسي بالساحة الليبية، تتعدد أيضاً الإشكاليات التي تواجه موسكو هناك. الإشكالية الأولى، تنصرف إلى تبعات الصراع الدولي على الساحة الليبية، وهي إحدى الإشكاليات الكبرى، حيث تتقاطع الاستراتيجيات الدولية والإقليمية في ليبيا، بالشكل الذي لا يُمكِّن أي طرف من الاستفراد بهذه الساحة.

فالتواجد الروسي في ليبيا، والتمدد الذي يبتغيه صانع القرار الروسي له تبعات كبرى، بما يجعل الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين لا يمكنهم صرف النظر عنه، وبما يؤشر إلى أن الفترة القادمة ربما تشهد تنافساً متصاعداً بين هذه القوى الدولية في ليبيا، كما في المتوسط.

فيما تتعلق الإشكالية الثانية، بتأثير ليبيا الجيوستراتيجي على جنوب أوروبا، فمن دون شك، فإن حضور روسيا في ليبيا يُكسبها نفوذاً كبيراً على أوروبا عموماً، وجنوب أوروبا بشكل خاص، من منظور أن الروس عبر هذا الحضور يمكن لهم التأثير في ملفين استراتيجيين بالنسبة للأوروبيين: ملف الطاقة، وملف اللاجئين، بما يعني أن أي أزمة للاجئين تنبثق من ليبيا يمكن أن تُعيد التوترات وتُعزز من تصاعد اليمين المتشدد، وتزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي.

ومن ثم، تُمثل تداعيات هذا الحضور الروسي، في الإطار العام للموقف الأوروبي من الحرب الروسية-الأوكرانية، إحدى أهم الإشكاليات التي سوف تواجهها روسيا، نتيجة محاولاتها الدائمة لتأكيد حضورها في ليبيا.

أولوية استراتيجية

في هذا السياق، يُمكن القول إنه بينما تركز الدول الغربية على الحرب في أوكرانيا، تبحث روسيا عن ما يمكن تسميته بـ”نقاط ضعف خصومها” في أنحاء مختلفة من العالم، لا سيما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي هذه الحرب الأخرى، تبرز ليبيا كـ”أرض الفرص” بالنسبة إلى صانع القرار الروسي، بما تعنيه من “أولوية استراتيجية” في إطار المواجهة مع الدول الغربية.

وكما يبدو، تنظر روسيا إلى الملف الليبي على أنه أحد الملفات التي يجب أن توليها اهتماماً خاصاً، بسبب حجم المصالح السياسية والاقتصادية، والاستراتيجية أيضاً، تلك التي تسعى روسيا إلى حمايتها وتعزيزها في القارة الأفريقية عبر البوابة الليبية.