اختتمت القمة الدورية العربية الـ 31 أعمالها فى العاصمة الجزائرية بإعلان سياسى أعطاه القادة اسم «إعلان الجزائر» تضمن بعض ما يمكن اعتباره تطوراً فى الإدراك العربى لواقع التحديات التقليدية والمستحدثة التى تواجه الأمة العربية. أول ما لفت الانتباه فى هذا الإعلان طرح مواقف وأفكار تتعلق بما درج القادة العرب على تسميته «قضية العرب المركزية» أى قضية فلسطين تختلف كثيراً عن حقيقة «الحال العربى» من هذه القضية . ففى الوقت الذى تكشف فيه معظم المواقف العربية من تحولات جذرية ليس فقط بتجاوز أولوية قضية فلسطين على ما عداها من أولويات بل باتجاه «التطبيع المحموم» مع كيان الاحتلال الإسرائيلى. عاد القادة فى إعلان الجزائر لتأكيد «مركزية القضية الفلسطينية» والتمسك بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى غير القابلة للتصرف خاصة الحق فى الحرية وتقرير المصير وتجسيد الدولة المستقلة كاملة السيادة وفقاً لخطوط 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحق العودة والتعويض للاجئين، إضافة إلى تجديد التمسك بمبادرة السلام العربية لعام 2002 ومبدأ «الأرض مقابل السلام» الذى تجسده هذه المبادرة، إضافة إلى دعم واسع لمطالب الشعب الفلسطينى. يحدث هذا فى الوقت الذى تؤكد فيه كل المؤشرات أن الانتخابات العامة الإسرائيلية التى توافق موعد إجرائها مع موعد انعقاد القمة العربية، ستجئ بـحكومة يرأسها بنيامين نيتانياهو تضم كل قوى وأحزاب اليمين واليمين التوراتى المتطرف، سيكون أهم أهدافها تحويل «قانون القومية» الإسرائيلى الذى صدر منذ عامين من نصوص إلى واقع، وبالذات تحويل إسرائيل إلى «دولة يهودية» و«تهويد كل الأرض الفلسطينية من النهر إلى البحر بما يعنيه ذلك من نوايا القضاء نهائياً على القضية الفلسطينية. كيف سيتعامل العرب مع هذا المأزق الكبير بين يقظتهم الجديدة بالعودة إلى إعطاء القضية الفلسطينية ما تستحقه من جدارة ومكانة فى قلب الأهداف العربية، وبين التحولات الهيكلية التى تحدث داخل كيان الاحتلال الذى قدر، وبإرادته المستقلة، أن يأتى بعتاة اليمين المتطرف وعلى رأسهم الإرهابى «إيتمار بن غفير» ليحكموا دولتهم، بكل ما يعنيه هذا التوجه الشعبى الإسرائيلى من جنوح نحو التطرف، ورفض السلام مع العرب، وإعطاء الأولوية لـ «المواجهة الساخنة»، والتعامل مع القضية باعتبارها «صراع وجود» أى أنه صراع يحدد وجود أو زوال كيان الاحتلال ومستقبله؟ هل العرب، بعد قمة الجزائر، لديهم استعداد لخوض الصراع على ذات القاعدة التى قرر الإسرائيليون خوضها، أى باعتباره صراع وجود، ضمن قاعدة: أن تعود فلسطين وتذهب إسرائيل إلى الجحيم، رداً على معادلة الإسرائيليين وهى أن تبقى إسرائيل وتذهب فلسطين إلى الجحيم ومعها العرب إن أرادوا ذلك؟! على قاعدة التحدى ذاتها، تضمن «إعلان الجزائر» من بين ما تضمن إدراكاً واعياً بقضيتين لهما درجة مهمة من الارتباط بالقضية الأولى: أولى هاتين القضيتين الحديث فى بند أساسى من الإعلان، ربما للمرة الأولى فى تاريخ البيانات الختامية للقمم العربية، على «عصرنة العمل العربى المشترك». والعصرنة تعنى التحديث بدلاً من الرتابة والتقليدية والتخلف، وحديث المجاملات المفرغة من المعانى. ثانية هاتين القضيتين إفراد بند خاص ليس فقط لتحليل وقراءة «الأوضاع الدولية» بل تقديم محاولة جديدة للإجابة عن السؤال المحورى: كيف نتعامل نحن العرب بفعالية مع التطورات العالمية المستحدثة بما يحقق لنا أهدافنا العربية. هناك ملاحظات مهمة بخصوص التعامل العربى مع هاتين القضيتين. أول هذه الملاحظات أن «إعلان الجزائر» أعاد مجدداً الاعتبار إلى مفهوم «نحن العرب» أى نحن الأمة العربية، بما يعنيه من إدراك جرى تجاوزه والقفز عليه طيلة العقدين الماضيين وبالتحديد منذ الغزو الأمريكى للعراق واحتلاله عام 2003 . فمنذ ذلك الغزو بدأ مخطط تفكيك النظام العربى وتفكيك الدول العربية لصالح قيام نظام إقليمى يرتكز على دويلات وكيانات تختفى منها «العروبة» كهوية، لصالح إعلاء هويات هامشية عرقية ودينية وطائفية. حدث هذا جنباً إلى جنب مع حروب تدمير دول عربية أخرى بعد تدمير العراق وتقسيم السودان، حروب فى سوريا واليمن وليبيا، وحرب من نوع آخر فى لبنان، والنتيجة أن «الهوية القومية العربية» اختفت أو تراجعت، لكن للأسف لم تبرز هويات وطنية بديلة، بل برزت محاولات لفرض هويات فرعية على حساب الهويات الوطنية. فى ظل كل هذه الظروف كان أمراً عبثياً أن يتحدث أحد عن وجود “هوية قومية عربية”. إذ أين لنا بهذه الهوية القومية العربية إذا كانت الهويات الوطنية نفسها تحتضر. إعلان الجزائر أعاد الدفع بالهوية القومية العربية مجدداً، وليس هذا بدعة لأن الهوية القومية موجودة بانسجام تام مع الهويات الوطنية فكلها تنسج وحدة الأوطان التى هى سبيل وحدة الأمة، وهذا ما سبق أن أكدته مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية (عدد مارس 2022 ص 14) بقولها: أفرزت انتفاضات 2010 – 2011 عدوى احتجاجات أظهرت، على رغم احتضار العروبة، أن المواطنين العرب، ما زالوا يتشاطرون ليس فقط لغة واحدة وثقافة واحدة، بل أيضاً نوعاً من الهوية السياسية المشتركة الواحدة». هكذا يدركنا الأمريكيون، ولذلك يحاربوننا من هذه «الثغرة» (الهوية القومية الواحدة). فهل سيكون فى مقدور قادة العرب تحويل إدراكهم بوجود هذه الهوية القومية إلى فعل وسياسات ومشروعات سواء من خلال «عصرنة العمل العربى المشترك» أو من خلال التفاعل الإيجابى مع التطورات العالمية؟ إجابة هذا السؤال هى التى يمكن أن تحسم جدية مسعى العرب، وفق إعلان الجزائر أن يكونوا طرفاً عالمياً فاعلاً، أو يكونوا طرفاً مفعولاً به على مائدة القوى الإقليمية الشرق أوسطية التى تتنافس على الهيمنة الإقليمية للسيطرة على الشرق الأوسط: إسرايل وتركيا وإيران أو القوى الدولية التى تتصارع على السيطرة على النظام العالمى: التحالف الأطلسى الغربى الأمريكى – الأوروبى، أو التحالف الآسيوى «الأوراسى» بقيادة الصين وروسيا وأطراف آسيوية فاعلة هدفها إسقاط النظام العالمى أحادى القطبية لصالح نظام بديل متعدد الأقطاب تكون فيه أمريكا طرفاَ ضمن أطراف عالمية أخرى قادرة على فرض نفوذها وفرض قضاياها على أجندة النظام العالمى المأمول. كيف ستكون اختيارات الدول العربية؟ هذا هو أبرز تحديات ما بعد إعلان الجزائر.
نقلا عن الأهرام