عشرات الكتابات التى تناولت الشأن الإيرانى خلال الفترة الأخيرة دار معظمها, والأمريكى والإسرائيلى بالخصوص، حول احتشاد يستهدف ترتيب صفوف الإقليم من أجل صياغة شكل جديد لمواجهة إيران. الأمر يجرى بتنسيق أمريكى وبترويج وضغط إسرائيلي، من أجل تحديد أكثر جدية حول الأدوار المحتملة للأطراف التى يتوقع جاهزيتها للانخراط فى هذا الصف. لكن فى الوقت ذاته؛ المصاحب لهذا الزخم «الموسمي» فى جانب منه، هناك من يؤكد أن هذا المشهد المصنوع لا يمت لحقيقة الأوضاع، التى لم تنضج بعد. يكفى أن هناك فورات تصعيد مماثلة شهدها هذا الملف سرعان ما خبت. لهذا يظل التشكك حاضرا طوال الوقت؛ وتبقى هناك مساحات رمادية لن يتقدم أحد على ما يبدو، لإضفاء قدر من اليقين حول مواجهة عسكرية مرتقبة تدور أسئلة عديدة بشأنها.
أول تلك الأسئلة بالضرورة سيكون عن أطراف تلك المواجهة إن جرت، فالطرف الإيرانى معلوم فماذا عن الطرف المقابل؟ بعيدا عن الولايات المتحدة وإسرائيل فلهما حساباتهما الخاصة سنعود لهما لاحقا، حيث الأكثر إلحاحا بالنسبة لدول المنطقة هو من فى الإقليم انخرط فعليا فى هذا الترتيب، فهناك من التلميح ما يشير إلى أن هناك من جرى مفاتحته فى الأمر. وهنا تنصب الأسئلة عن استجلاء ما إذا كانت هناك ضغوط أو تحفيز مارسته الولايات المتحدة، على عواصم عربية من أجل الاستعداد للعب أدوار بعينها، وما طبيعة تلك الأدوار ومداها المتوقع؟ وربما فى ذات السياق سيكون الأهم معرفة قدر التشارك العربى مع الرؤية الأمريكية الإسرائيلية، فى حال امتلاكهما تقديرا موحدا يتحركان على ضوئه، فبعض الشواهد وتسريبات الاتصالات الثنائية أفصحت عن أمر مثير، يتعلق بأن إسرائيل مازالت تحتفظ بدور المحفز مع بعض الأطراف، بينما تظل الولايات المتحدة فى منطقتها الرمادية انتظارا لانتظام الصفوف.
المنطقة الرمادية الأمريكية ليست فعل سكون بالطبع، بل هى أقرب لتحقيق وإنفاذ مصالح أهم وأقرب لواشنطن فى تلك المرحلة، مثل بعض صفقات التسليح مع دول بالمنطقة تجرى عادة على هامش هذا النوع من الزخم الافتراضي. فالخطوة الأكثر جدية جرت مع إسرائيل قبل شهر من الآن، تمثلت فى المناورة العسكرية المشتركة «جونيبر أوك» الأكبر بينهما على الإطلاق، إذ شملت جميع المجالات الجوية والبحرية والبرية فضلا عن تمرين هو الأول من نوعه، يختص بقدرات الفضاء والحماية السيبرانية، لذلك شاركت 140 طائرة مقاتلة منها «قاذفات بى 52»، و12 سفينة حربية ضمنها حاملة الطائرات «جورج دبليو بوش»، بجوار ست سفن إسرائيلية وغواصات. «جونيبر أوك» جرت داخل إسرائيل لكن الأهم، أنها تستهدف تحسين قدرات التشغيل المتبادل بين الجيشين، وتفتح المجال أمام الولايات المتحدة لتدعيم جاهزية زيادة قواتها بالمنطقة فى حال تطلب الأمر طمأنة الحلفاء، أو ردع خصوم افتراضيين قد تلزمهم رسائل من هذا النوع عبر القيادة المركزية الأمريكية، المعنية ببلورة «بنية أمنية» إقليمية ناشئة تعمل على إقامتها.
التضارب بين موقفى الولايات المتحدة وإسرائيل المشار إليه، ظهر بعد أيام من انتهاء المناورة العسكرية الكبري، فالتقارير الإسرائيلية أفادت بأن بعض التمارين شهدت عملية «محاكاة» لضربات على المنشآت النووية الإيرانية، إلا أن المسئولين الأمريكيين خرجوا ليقدموا نفيا تقنيا يخص ذلك الأمر. لكنه يظل نفيا من النوع الغائم الذى جاء مصحوبا بالإفصاح عن نية واشنطن توسيع نطاق مناورات «جونيبر أوك»، عبر تشجيع دول اخرى فى المنطقة على المشاركة فى مناورات كبيرة ومعقدة مماثلة. وهنا تعود التساؤلات مرة أخرى عن المنتظر من هذا التشجيع ومن هم بالتحديد المقصودون به؟ خاصة والقيادة المركزية الأمريكية تضع جل اهتمامها فى تلك المرحلة على نطاق منظومات وتدريبات «الدفاع الجوي»، فيما يخص النشر القادر على حماية سماوات المنطقة من خطر الصواريخ العابرة والمسيرات ذات التقنيات الحديثة، وعلى جانب آخر إحداث توازن مع قدرات إيرانية بدت اليوم مع التطوير الذى أحدثته على منظوماتها «باور 373»، مهددة إلى حد تراه العسكرية الأمريكية يلزمه عمل مكثف من أجل الوصول لنقطة اتزان.
داخل واشنطن هناك من يستبعد تماما أى حديث عن حرب شاملة ضد إيران، لكن لم ينف أحد نية التدخل بأدوات ومخططات مبتكرة، تسمح بالوصول إلى تحييد القدرة الإيرانية على امتلاك أسلحة نووية. فيما تبقى الغيوم تلف طبيعة هذه المخططات التى صدرت مرتين كـ»تعهد رئاسي» أمريكي، الأول فى يوليو 2022 بموجب «الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل»، ثم تكرر بعد يومين فى قمة جدة للأمن والتنمية، التى شاركت فيها دول «مجلس التعاون الخليجي» ومصر والأردن والعراق. على الجانب المقابل هناك مشهد يصفه البعض بأنه قريب الصلة من تلك الاستعدادات غير الاعتيادية، كشفت عنه وثيقة نشرتها وسائل إعلام إيرانية مؤخرا، تحوى رسالة من مساعد وزير الخارجية الإيرانى للشئون الاقتصادية إلى النائب الأول للرئيس الإيراني، يعرب فيها عن دهشته أن الشركات الروسية «تتباطأ» فى مشاريع النفط والغاز الإيرانية، كما أن الشركات الصينية أبدت «عدم الرغبة» فى المشاركة بهذه المشاريع. الرسالة تضمنت ما يشبه التقرير عن (10 حقول) نفط وغاز، تم إسناد بعض مشاريع تأهيلها للإنتاج إلى روسيا والصين وأخرى تم اقتراحها عليهما.
هناك من يصف موقف الشركات الروسية والصينية فى هذا الاستثمار الحيوي، استشعارا منهم بالقلق حول المستقبل الإيرانى القريب، وهذا يرتب سؤالا جديدا يخصنا، حول مدى استشعارنا بذات القلق ليس على إيران، بل على معادلة التوازن الأمنى الإقليمي، حيث يبدو المخفى منها أكثر من المعلن بكثير.
نقلا عن الأهرام