مساعي تسوية الأزمات العربية لا تتوقف. جهود حثيثة تُبذل من أجل صنع بيئة إقليمية أخفّ وطأة مما كانت عليه خلال العقد المنصرم. الأمثلة كثيرة، بعضها كان يصعب تصوره قبل أقل من عام واحد. تأثير الحرب الأوكرانية واضح في تعديل الاتجاهات لدى كثير من الأطراف المعنية دولياً وإقليمياً. الأيام القليلة الماضية زاخرة بأحداث ذات دلالة بارزة: زيارة وزير الخارجية التركي للقاهرة من أجل تدشين مرحلة طبيعية في علاقات البلدين. لقاء الرئيس السوري الأسد في موسكو مع نظيره الروسي بوتين، للبحث في إنهاء مأزق العلاقات السورية التركية.
ومن قبل الحدث الأبرز في بكين، حيث الاتفاق السعودي الإيراني لتطبيع العلاقات، وبدء مرحلة جديدة سيكون لها صداها في مواقع مختلفة، أبرزها اليمن ولبنان، وإن تطلَّب الأمر بعض الوقت، وقليلاً من الحوارات المُصممة جيداً بين الأطراف المحلية بالدرجة الأولى، وضمانات إقليمية بالدرجة الثانية.
تاريخياً لا تستمر الصراعات داخل الدول أو بين بعضها وبعض، إلى ما لا نهاية، حتماً ستأتي لحظة تتغير فيها المعادلات والقناعات، وتسهم في تحقيق تسوية ما، ترضي الأطراف المتصارعة، وتبدأ معها مرحلة جديدة أكثر استقراراً وأمناً. هذه اللحظة لا تأتي فجأة، ولا تحدث بين عشية وضحاها، هي لحظة تعبر عن تراكمات سابقة تصوغ حالة من الإرهاق المادي والمعنوي، وتصل بأطراف الصراع المحلية وغيرها، إلى قناعات متبادلة بأن الصراع بمراحله العنيفة قد وصل إلى نهايته، وأن استمراره يجلب الخسائر أكثر مما يجلب المكاسب، ومن ثم يقبل الجميع بتهدئة، تتلوها عمليات مرتبة لبناء الثقة يلتزم بها أطراف الصراع.
عربياً وإقليمياً، هل حانت تلك اللحظة، لحظة الاقتناع بأن مراحل العنف قد ولَّت ولا مفر من بدء مرحلة جديدة؟ وهل ثمة جهود دولية ومحلية صادقة تسعى إلى تلك التسويات الكبرى؟
أسئلة عديدة تطرح نفسها، لا سيما بخصوص صراعات سوريا واليمن وليبيا، بعضها يستند إلى مؤشرات محلية وإقليمية ودولية تبدو وكأنها بداية صادقة، أو على الأقل مُبشرة توحي بقرب البدء في تسوية ما، وبعضها الآخر يثير بعض الالتباس والغموض، ويعيد طرح الأسئلة من جديد، كما يعيد تقييم المؤشرات بشكل مختلف. القصة هنا مليئة بالمتغيرات، والمحفزات والعوائق في الآن نفسه. كما هي مليئة بأدوار مباشرة وغير مباشرة، منها ما هو مُعلن رسمياً، ومنها ما هو خلف الجدران. والأبرز هنا تلك الديناميكية الصينية والروسية، والمصحوبة برغبة مزدوجة لترسيخ مبدأ أن العالم لم يعد مرهوناً بقيادة واحدة، بل أكثر من قيادة تشارك في صنع السلام والاستقرار وفق أسس جديدة.
وللأسف الشديد، يظل الصراع العربي الإسرائيلي مستبعداً من أي تسوية سياسية، لأسباب عدة، أبرزها أنه صراع ممتد، له خصوصيته، سواء في أبعاده التاريخية أو الآيديولوجية أو الاستراتيجية، بما في ذلك الأبعاد الدينية التي يصعب تجنبها. وكل متغيراته الراهنة تؤكد أنه بعيد تماماً عن أي مسار سياسي دولي أو إقليمي أو أممي رشيد يراعي كونه صراعاً بين حق النضال القومي المشروع قانونياً وإنسانياً، واحتلال استيطاني مناهض للتطور البشري برمته. وهو صراع يتضمن بلا أدنى شك حقاً قومياً أصيلاً لشعب يسعى لحريته واستقلاله وكرامته، ولكنه مُغتصَب بفعل احتلال استيطاني يعتقد جازماً أن الأرض له وحده ولا مكان فيها لأصحابها الأصلاء. والغالب وفق متغيرات اللحظة الجارية فلسطينياً وإسرائيلياً أنه قريب من لحظة انفجار كبرى، لا سيما في ضوء تراجع الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية والتركيز الأكبر على الحرب الأوكرانية، وجهود محاصرة الصين استراتيجياً عبر تعزيز تحالفات واشنطن النووية مع دول مهمة في شرق آسيا، فضلاً عن تصاعد الغضب الفلسطيني بين الأجيال الجديدة الفاقدة للأمل، ونزوعها نحو المواجهة المسلحة للاحتلال والاستيطان والتجاهل الدولي.
الصراعات العربية الثلاثة الأحدث، وطوال العقد المنصرم، كانت هناك دائماً دعوات ومبادرات إقليمية ودولية لمحاصرتها، والدفع بتسويتها من خلال أطر؛ إما إقليمية، أو دولية، تتمثل في مهام أممية وتعيين مبعوثين من قبل مجلس الأمن، ومبعوثين آخرين لدول كبرى، يتولون الاتصال بأطراف الأزمة بهدف ضمان التزامهم بما يصدر عن مجلس الأمن من قرارات لإنهاء الصراع وتسويته بشكل ما، ويحول دون تفجره أو امتداده إلى آفاق إقليمية أكبر.
مثل هذه التصورات الدولية والإقليمية، التي صيغت في قرارات دولية كانت في الواقع وما زالت نتيجة لتوازنات وتسويات بين القوى المتحكمة في مجلس الأمن بالدرجة الأولى، وكل منها مُتدخل ومتورط بدرجات وأساليب مختلفة في تلك الأزمات العربية، ولذا تعرضت قرارات مجلس الأمن الدولي للتغيير والتبديل في الأولويات بين فترة وأخرى، متأثرة بالتطورات التي كانت تجرى على الأرض. وطوال العقد المنصرم لم تنجح البعثات الأممية والمبعوثون الدوليون في تطبيق التصورات الأممية بشأن صراعات اليمن وسوريا وليبيا، حتى في الجوانب ذات الطابع الإنساني؛ فقد كانت تأخذ وقتاً ومناقشات طويلة قبل أن يتم إقرار مساعدة أو تخفيف قيود دولية على أشخاص ومؤسسات إغاثية محلية ودولية.
وفى النهاية، كانت القرارات الأممية تعكس حالة توازن بين مصالح القوى الكبرى في المقام الأول، فضلاً عن توازن مصالح بين تلك القوى الكبرى وأطراف إقليمية تدخلت في تلك الأزمات العربية وباتت عنصراً مهماً من تأجيج الصراع ذاته، وتبدو الآن في حالة مراجعة مختلفة الحدة من حالة إلى أخرى، ساعية إلى تهدئة قد تُسرّع تسوية لا تخسر فيها تلك القوى الإقليمية إلا القليل، أو تعفيها من التزامات لم تعد مجدية، وتفتح لها أبواباً من الخير المفاجئ، كما تبعد عنها شروراً غير مُرحب بها.
الجديد هنا يتمثل في تغييرات مهمة على قمة النظام الدولي. فالقرارات والتصورات الأممية وما فيها من أفكار تبدو طيبة نظرياً، ولكنها عقيمة واقعياً، مثل تلك التي اقترحها مؤخراً عبد الله باتيلي، المبعوث الأممي لليبيا، والتي دعا فيها إلى آلية تجهز الانتخابات الموعودة، وتستبعد مؤسسات منتخبة وأخرى معينة من مجمل ترتيبات فترة ما قبل الانتخابات. هذا العقم الأممي يَسَّر لقوى دولية نافذة، كالصين وروسيا، أن تضع بصمتها على ملف هنا أو آخر هناك، الأولى اختصت بالملف الإيراني إقليمياً، والثانية تجتهد منذ فترة وتزيد من اجتهادها مؤخراً لوضع علاقات دمشق وأنقرة على مسار جديد. في حين تبدو واشنطن أكثر اهتماماً بالملف الليبي، حيث تأييد أفكار باتيلي، وغالباً كنوع من الضغط السياسي الثقيل على البرلمان والمجلس الرئاسي لإنهاء الجمود طويل الأمد بشأن المبادئ الدستورية المنظمة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
دوافع التسوية وتجاوز مرحلة الجمود والإرهاق موجودة محلياً وإقليمياً، غير أن تجاوب الأطراف المحلية حتى اللحظة ليس بالقدر الكافي، الذي يسمح بحدوث اختراقات كبرى، ومؤشرات التأجيل تبدو الأوقع، والمرجح أن تكون في حدود عدة أسابيع لا أكثر.
نقلا عن الشرق الأوسط