تكشف أزمة مدينة الزاوية في غرب ليبيا والتي شهدت احتجاجات اجتماعية على خلفية رفض ناشطين وزعامات اجتماعية ما احتوته مقاطع مصورة جرى تسريبها بقيام مرتزقة أفارقة بتعذيب شبان ليبيين من أبناء المدينة، عن استمرار المعوقات الرئيسية التي يمكنها إحباط العملية السياسية في ليبيا، حيث لا يزال نفوذ المرتزقة وقوى الجريمة المنظمة متغلغلاً في العديد من البؤر في البلاد، في مقابل خريطة قوى مبعثرة ومتنافسة، فيما تنشغل النخب السياسية بالبحث عن الفرص في الانتخابات المقبلة، على الرغم من أن مشهد الزاوية في حد ذاته قد يشكل مؤشراً على مدى واقعية إجراء انتخابات في بيئة قابلة للاشتعال بسرعة، وضعف قدرة السلطات على السيطرة على الأوضاع.
دلالات رئيسية
تطرح هذه الأزمة العديد من الدلالات التي يتمثل أبرزها في:
1- استمرار حالة الانكشاف الأمني: والذي يمكن النظر إليه من أكثر من زاوية، أبرزها على سبيل المثال زاوية تفاعل خريطة القوى والكيانات الأمنية في غرب ليبيا، فقد كشفت أحداث الزاوية عن طبيعة التفكك الأمني في ظل تعدد القوى الأمنية، بالإضافة إلى تنافسها، وعدم قدرة السلطة على إدارة التعدد في تلك الأجهزة أو تحديد مهامها الفعلية، ففي هذه الأزمة أظهرت الخريطة تنافس أجهزة “الردع” و”دعم الاستقرار” و”مكافحة الهجرة غير الشرعية” التي أصدرت بيانات عن انتشارها في طرابلس ومحيطها لمواجهة أي انفلات حال تمدد تداعيات الزاوية إلى العاصمة، ولا يبدو أن هذا الانتشار منسق أمنياً بقدر ما يعكس الانتشار في مواقع النفوذ، والتصادم من جهة أخرى، حيث يتبادل الطرفان الاحتكاك الأمني ويقومان باعتقال عناصر من المنتسبين لبعضهما بعضاً، في حين يتعين أن تقوم داخلية حكومة الوحدة بالتنسيق بين الطرفين، كما أعلنت “الغرفة الأمنية” في الزاوية تبرؤها من الأحداث.
2- تغلغل الجريمة المنظمة في ليبيا: فالأحداث ذاتها كشفت عن مدى تنامي نفوذ المرتزقة في منطقة الزاوية، وهي ليست منطقة أطراف أو منطقة هامشية في غرب ليبيا، وتشكل جماعات المرتزقة في الزاوية ظلاً لجماعات مصالح أكبر منها ويمتد نفوذها في البلاد إلى خارجها، حيث تنشط في تهريب النفط والسلاح والهجرة غير الشرعية، مخترقة بذلك الشريط الساحلي الذي يفترض أنه تسيطر عليه قوة من خفر السواحل في الغرب وصولاً إلى معبر رأس جدير في تونس حيث يمكنها الانخراط في حركة السلع كجزء من عملية غسيل الأموال ضمن دورة الجريمة المنظمة، وبالتالي هي أقوى من الأجهزة الأمنية التي لا تخضع لهيكل متماسك ضمن منظومة أمنية ضعيفة.
3- حرص الأطراف على توظيف الأزمة سياسياً: جاء اللقاء الذي جمع بين رئيسي المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة لمناقشة ملف الزاوية مرتبطاً بالنقاش حول الانتخابات المرتقبة في البلاد، وهو الربط الذي يكشف عن طبيعة التوظيف السياسي لملف الزاوية، فمن جهة هناك من ينظر إلى أن اضطراب الوضع الأمني قد يقوض إمكانية إجراء الانتخابات في ظروف مستقرة أمنياً، وهي وجهة نظر الرئاسي على الأرجح، في المقابل ثمة تقارير محلية تشير إلى أن الدبيبة قد يكون مستهدف سياسياً من هذه التوترات التي تظهره غير قادر على فرض الأمن والسيطرة، فالأخير تعرض على سبيل المثال لانتقادات من رئيس المجلس الأعلي للدولة خالد المشري وقوى سياسة أخرى بسبب الصمت على تلك الأحداث في محاولة لتجاوزها.
4- ضعف الترتيبات الأمنية قبل الانتخابات: من المفترض أن هناك ترتيبات أمنية تعمل عليها اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) لنشر قوة أمنية مشتركة لبسط الاستقرار في البلاد تمهيداً للانتخابات، ومرة أخرى قد تكون أحداث الزاوية بمثابة بروفة استباقية لما يمكن أن يجري في المستقبل، فالمسألة لا تتعلق فقط بالتأمين الإجرائي للعملية الانتخابية، فوجود قوى قادرة على افتعال التوتر الأمني في حد ذاته يمكن أن يقوض فرص الانضباط لتمكين أي سلطة تفرزها الانتخابات، وهو سيناريو متوقع طالما أن الدولة لا تزال غير قادرة على احتكار القوة. وثمة عامل آخر لا يقل أهمية، وهو غياب خطة شاملة للتعامل مع ملف المرتزقة الأجانب في البلاد على الرغم من أنه أحد الملفات الرئيسية المدرجة على طاولة الأزمة.
5- إعادة الاعتبار لدور القوى الاجتماعية: أثبتت أحداث الزاوية أن الدولة العميقة في ليبيا التي تمثلها القواعد الاجتماعية من الزعامات الاجتماعية والناشطين، هي القوة الأكثر قدرة على تحريك المشهد والتصدي لتداعيات الفوضى، فسرعان ما تحركت للاحتجاج في الوقت الذي عملت على فرض ضوابط الحركة في المدينة ثم تحديد القوة الأمنية التي ستنسق معها، فعلى سبيل المثال جرى تشكيل لجنة (15) من قوة أركان غرب ليبيا (الجيش الليبي) وعدد من الناشطين ووجهاء العشائر، وهي اللجنة التي ستعمل على وضع خطة العمل للتعامل مع التحديات الأمنية التي تواجهها المنطقة.
محركات الفوضى
إجمالاً لهذه الدلالات الرئيسية في مشهد منطقة الزاوية، من المتصور أن الحالة الليبية لا تزال تشهد محركات الفوضى فيما لا تزال محركات الانضباط والقوة مشتتة وتتعاطى كرد فعل وبذهنية يغلب عليها طابع التسييس وهي مظاهر تقليدية في المشهد الليبي بشكل عام، لكن مشهد الزاوية يشير أيضاً إلى أنه لا يشترط أن يكون دافع الفوضى الأمنية في ليبيا هو الاحتراب بين القوى والمكونات العسكرية وشبه العسكرية، بل إن هناك محركات أخرى منظورة لكن لم يتم المساس بها رغم ما تشكله من خطر.
ومن المتصور أنه مهما كانت التحركات التي ستقوم بها الأجهزة الأمنية الليبية فإنها تتعامل مع الجزء الظاهر من جيل الجليد. فعلى سبيل المثال، تشن الأجهزة الأمنية في طرابلس حملة ضد بائعي الخضروات الجائلين من الأجانب في العاصمة والذين لا يمتلكون أوراقاً رسمية، في حين أن شبكة المرتزقة الأجانب ولا سيما من دول الجوار في النيجر وتشاد ومالي وغيرها هي شبكة تدير ثروات طائلة لم تحكم الدولة السيطرة عليها بشكل كامل مثل النفط، بالإضافة إلى عائد ثروات إدارة فوضي السلاح غير الشرعي في ليبيا. ويقول مراقبون محليون إن تلك المنظومة متغلغلة في أوساط سياسية وأمنية حيث يتنامى الاقتصاد الموازي وغير الرسمي في البلاد.
فرصة محتملة
لكن على الجانب الآخر، فإن إمكانية تقويض هذه الظاهرة ربما انطلاقاً من الزاوية قد تشكل فرصة للقوى السياسية والأمنية في ليبيا، إذ يمكنها أن تشكل عامل ضغط على معالجة الثغرات في هيكل الأجهزة الأمنية، وعامل ضغط آخر على القوى الدولية للتحرك من أجل تقديم الدعم لهذه الأجهزة في ظل نفوذ تلك القوى، وعامل ضغط ثالث لتفعيل بند إجلاء المرتزقة من البلاد، كأحد بنود خطة المسار الأمني، لكنها قد تكون أكثر من ذلك بمثابة ضوء أحمر لإنهاء الانقسام العسكري وتوحيد المؤسسة العسكرية التي تظل هي القوة القادرة على فرض الأمن في مواجهة الظواهر غير التقليدية ولا سيما شبكات الجريمة المنظمة العابرة للحدود.
وفي النهاية، تظل العملية السياسية رهن ضبط الأمن وفرض الحد الأدنى الممكن من الاستقرار لإجراء العملية الانتخابية التي يترقبها الليبيون، وعلى الرغم من أن المسار السياسي للانتهاء من العملية السياسية لا يزال متباطئاً، حيث لم تتحرك لجنة (6+6) لإنجاز الاستحقاق القانوني المطلوب لإجراء العملية الانتخابية، كمؤشر آخر على طبيعة الديناميكيات الحالية في المشهد الليبي الرخو في بُعديه الأمني والسياسي، وهي مؤشرات كفيلة بالحكم على أن المشهد الليبي لم يغادر المفاصل الرئيسية لعراقيل الانتقال إلى الاستقرار المطلوب.