صراعات منسية:
أثر التجاهل الدولي لتسوية الصراع السوداني بعد حرب غزة 

صراعات منسية:

أثر التجاهل الدولي لتسوية الصراع السوداني بعد حرب غزة 



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 21 نوفمبر 2023، جلسة استماع بعنوان “صراعات منسية: أثر التجاهل الدولي لتسوية الصراع السوداني بعد حرب غزة”، واستضاف المركز الأستاذ طاهر الساتي رئيس تحرير صحيفة التيار (كمتحدث رئيس في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ حسين معلوم، والأستاذ محمد عمر، والأستاذ علي عاطف، والأستاذة نادين المهدي.

صعود الدعم السريع

وتطرّق الساتي إلى أبرز أسباب صعود قوات الدعم السريع في السودان والتي أدت إلى اندلاع الحرب الحالية ضد الجيش السوداني في 15 أبريل 2023 بعد فشل تنفيذ الانقلاب الخاطف الذي كان مخططاً له، ومن بينها:

1- دور نظام البشير في إنشاء الدعم السريع: اعتبر الساتي أن إنشاء قوات الدعم السريع أحد الأخطاء الكارثية التي ارتكبها الرئيس السابق عمر البشير، فخلال عمليات الجيش السوداني بالجنوب وقتال المتمردين كان يعتمد على الاستنفار الشعبي ككل رغم خطورته، ولكن مع اندلاع أزمة دارفور تم إشراك المتطوعين بطريقة غير منظّمة، واستنفار القبائل العربية في الإقليم، مع دفع لتشكيل قوات الدعم السريع وسيطرة آل دقلو على هذه القوات بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ليتحوّل الدعم السريع حتى بعد الإطاحة بالبشير إلى ما يشبه -مع الفارق- حزب الله في لبنان. فبعد اتفاق دارفور كان من المفترض حل قوات الدعم السريع ودمجها في الجيش، لكنها ظلت مستقلة بذاتها، وهو ما فاقم من الأزمة ثم منحها شرعية سياسية بعد الإطاحة بالبشير وإشراك قائدها في المجلس السيادي الانتقالي.

2-  خطأ البرهان في تعزيز دور الدعم السريع: عمد رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان بعد رحيل البشير إلى تقوية قوات الدعم السريع ومنحها استقلالية أكثر عن الجيش، فقد أصبحت القوات خاضعة فقط لرئيس الدولة (رئيس مجلس السيادة) ورئيس الحكومة وليس لوزارة الدفاع، وقد منح هذا القرار الدعم السريع استقلالاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ونجح في خلق علاقات خارجية مستقلة، مثل علاقته مع شركة فاجنر الروسية، وتجنيد المزيد من الأفراد في صفوفه، فقبل الثورة كان قوام الدعم السريع حوالي 23 ألف مقاتل فقط وبعد الثورة في عام 2019 تجاوز عددهم 120 ألف مقاتل بخلاف زيادة حجم التسليح كماً وكيفاً، وخلق قوة اقتصادية فاعلة سواء في قطاع الزراعة أو التجارة والصناعة والبنوك والسيطرة على مناجم الذهب.

3-  تحويل الدعم السريع إلى جسم سياسي ومنحه الشرعية السياسية: تسبب خطأ القوى السياسية والأحزاب بجانب البرهان بعد عام 2019 في منح قوات الدعم السريع شرعية سياسية داخل مجلس السيادة والحكومة، وهو ما ساهم في توفير غطاء سياسي له من خلال اتفاق الإطار السياسي الذي استخدمه محمد حمدان دقلو (في أبريل 2023) لتبرير الانقلاب على البرهان والحرب على الجيش وذلك بالتعاون مع قوى الحرية والتغيير، فقد قدم نفسه باعتباره مدافعاً عن الاتفاق الإطاري الذي تبناه الجميع من قبل كخارطة سياسية رغم خروج معظم القوى ومنهم البرهان لاحقاً بسبب إدراكهم خطورة الاتفاق وعدم فاعليته.

4-  تجاهل تعزيز قوات الدعم السريع لوجودها العسكري في الخرطوم: نجحت قوات الدعم السريع منذ بدء الخلاف والصراع الفعلي بين الجيش والدعم السريع في أكتوبر 2022، في نشر وتعزيز قواتها بالعاصمة الخرطوم بشكل محسوب ومتدرج ودون إدراك من قيادة الجيش حتى وصل عدد قواتها بالعاصمة إلى 54 ألف مقاتل بعد أن كان عددهم لا يتجاوز ألفي مقاتل قبل الانقلاب، وهذا الأمر ساعد الدعم السريع في تنفيذ انقلابه الفاشل ضد البرهان، ثم تحول بعد ذلك إلى الحرب بعد فشل مخطط الانقلاب الخاطف الذي كان مخططاً له.

أسباب ضعف الدولة

اعتبر الساتي أن ما يعيشه السودان الآن من ضعف يرجع إلى التالي:

 1- التعثر السياسي في إدارة الدولة: يعد الفشل في إدارة وتنظيم الدولة منذ استقلالها في خمسينيات القرن الماضي هو السبب فيما يعيشه السودان من انقسام واستقطاب ومحاولات الانقلاب الدائمة والمستمرة، وهو مرتبط بفشل النخبة السياسية، إذ تعتبر النخبة السياسية في السودان ضعيفة للغاية، لأن انتماءها يكون أولاً لمصالحها الشخصية ثم علاقاتها بالقبيلة ثم الحزب وفي النهاية الدولة، وهو ما يسمح للانتماءات السابقة بأن تتجاوز مصالح الدولة ذاتها وبقاءها.

2–   فشل تخصيص وإدارة وتوزيع الموارد الاقتصادية: ساهم فشل الحكومات السودانية في تخصيص وتوزيع وإدارة الموارد والثروات بين كافة مناطق وفئات الشعب السوداني في ضعف بنية الدولة، وضعف الانتماء السياسي من المواطن نحو الدولة، وبالتالي سهولة تجنيده وولائه لتنظيمات فرعية تهدد وجود الدولة ذاتها، هذا بجانب الفشل في إدارة ثروات الدولة ذاتها فالسودان دولة كبيرة مساحة وتمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ووفرة المياه، ومع هذا يعاني من أزمات غذائية، هذا بخلاف الثروة التعدينية وخاصة الذهب والعديد من الموارد الأخرى.

3–   مشكلة التعصب السياسي والانتماءات القبلية: ما زالت الانتماءات القبلية لدى المواطن هي الضابط لموقفه وسلوكه السياسي والتي تتغلب على انتمائه للدولة ككيان جامع لهم، وهو ما يساهم في إشعال الصراعات الداخلية وإضعاف الجبهة الداخلية، الأمر الذي حول السوان إلى بلد ضعيف، مما ساهم أيضاً في زيادة التدخلات الخارجية والطمع في ثروات ومقدرات الدولة واستغلال الخلافات الداخلية لتحقيق هذا الأمر، فالخسائر الحالية نتيجة انقلاب 15 أبريل بلغت حتى الآن أكثر من 16 مليار دولار.

مواقف القوى الخارجية

تطرق الساتي إلى محددات مواقف بعض القوى الإقليمية والدول الكبرى مما يجري في السودان، كالتالي:

 1- مصر: اعتبر الساتي أن موقف مصر داعم قوي للسودان، ورافض منذ البداية للتصعيد العسكري، فقد سبق واستضافت عدة لقاءات لكافة الأطراف السياسية قبل اندلاع الحرب من أجل التوصل إلى تفاهمات سياسية بشأن مستقبل السودان وحتى بعد اندلاع الحرب دعمت مفاوضات ولقاءات متعددة، بل واستضافة عدة ورش ولقاءات متنوعة لقوى الحرية والتغيير من أجل التوصل لتفاهمات ووقف الحرب.

2–   السعودية: تتخوف الرياض أيضاً من وجود قوي للدعم السريع في السودان، فهو بمثابة مليشيا، ولهذا حرصت على استضافة لقاءات جدة وإجراء مفاوضات بين الجيش والدعم السريع على أراضيها، لكنها فشلت حتى الآن في التوصل إلى اتفاقٍ وحل جاد بشأن التصعيد الحالي.

3–   إثيوبيا: استغلت أديس أبابا ما يجري في السودان ودعمت قوى الحرية والتغيير والدعم السريع لإطالة أمد الصراع في السودان بسبب موقفها المتقارب مع مصر في ملف سد النهضة، ومع هذا فهي أضعف من تحويل مسار السودان وتمكين الدعم السريع، فرغم هذا ما زالت الدولة في السودان قوية نسبياً ومترابطة مجتمعياً بخلاف إثيوبيا فهي دولة هشة وغير مستقرة وتشهد اضطرابات من وقت لآخر، ولهذا لن تتمادى بشكل كبير تجاه ما يجري في السودان أو توفير دعم قوي للدعم السريع وشركائه.

4–   إسرائيل: رأى الساتي أن دور إسرائيل حتى الآن في السودان محايد ولم تتدخل فيما يجري، فالأزمة سودانية-سودانية، بل إنها حظيت بعلاقات مع البرهان فقد كان أول رئيس مسؤول عن السودان يلتقي مسؤولين إسرائيليين وعدم معارضة التطبيع، وكذلك التقت وفود من الدعم السريع مسؤولين إسرائيليين، لذا ورغم تدخلاتها المعروفة والسرية في الكثير من دول المنطقة ما زال حتى الآن دور إسرائيل محايداً ويترقب ما يجري في السودان.

5–   الولايات المتحدة: لا تريد الولايات المتحدة تصاعد الصراع بشكل كبير في السودان، كما أنها رافضة لوجود الدعم السريع على غرار حزب الله لأنه سيضر بمصالحها في السودان ودول الجوار السوداني، هذا بخلاف علاقاته القوية مع شركة فاجنر العسكرية الروسية التابعة لموسكو والتي تمثل تهديداً قوياً للمصالح الأمريكية في مناطق متنوعة في أفريقيا.

مستقبل الحرب

توقع الساتي أن تأخذ نهاية الحرب الحالية في السودان المسارات التالية:

 1- انتهاء الحرب عن طريق المفاوضات: من المتوقع أن تنتهي الحرب الحالية بين الدعم السريع والجيش السوداني من خلال المفاوضات السياسية، فالأمر لن يتم حسمه عسكرياً بشكل نهائي من قبل الطرفين. فمن ناحية، فإن الجيش يدرك صعوبة القضاء بشكل نهائي على قوات الدعم السريع، فخلال مواجهاته السابقة مع الحركات المسلحة في الجنوب ودارفور وكردفان انتهى الأمر إلى المفاوضات، وكذلك الدعم السريع بات ممزقاً داخل المدن السودانية ومنعزلاً ويجد صعوبة في التواصل، ولهذا مهما طال أمد الحرب فسيتم حسم الصراع من خلال طاولة المفاوضات.

2-  انتهاء الدور السياسي للدعم السريع: من المتوقع أن ينهي التصعيد الحالي أي دور سياسي للدعم السريع في مستقبل السودان كما يريد حميدتي ومن معه، خاصةً في ظل تراجع الدعم الشعبي ورفض إعطاء أي دور لهم أو إدارة الدولة حتى داخل حواضنهم الاجتماعية بسبب الانتهاكات التي يمارسونها، هذا بجانب تحول الدعم السريع إلى نمط حكم العائلة التي تسيطر عليها آل دقلو وليس مبنياً على فكرة وأيديولوجيا سياسية أو دينية تسمح بتوسيع دائرة المشاركة داخله، كما أن المشكلة التي تواجه الدعم السريع ليست فقط المواجهات العسكرية مع الجيش، ولكن الرفض المجتمعي وافتقاره لحاضنة شعبية تعزز شرعيته السياسية.

3-  استبعاد انفصال الدعم السريع بدارفور: من المستبعد لقوات الدعم السريع بعد هزيمتها في الخرطوم والرفض الشعبي لها أن تنجح في استغلال حاضنتها الاجتماعية في إقليم دارفور وخاصة في الرزيقات والمسيرية، وأن تنفصل بإقليم دارفور ذي المساحة الضخمة وتؤسس دولة هناك، فلن يقدر الدعم السريع على فرض سيطرته بالكامل على إقليم دارفور، فالمكون الأفريقي وليس العربي هو الأكبر في هذا الإقليم، وهو داعم لموقف الجيش ورافض لأي وجود أو دور للدعم السريع داخل الإقليم، فمدينة الفاشر أهم مدن الإقليم وعاصمته بعيدة عن الصراع، وبالتالي لن تكون هناك دولة في دارفور بدون سيطرة الدعم السريع على هذه المدينة التي لم يستطع دخولها حتى الآن.

4-  الاكتفاء بدور اقتصادي للدعم السريع: من المتوقع أن يتم التوصل لصيغة تضمن للدعم السريع، وخاصة عائلة آل دقلو، الاحتفاظ بدور اقتصادي فقط وليس سياسياً أو عسكرياً، وهذا بفضل القوة الاقتصادية والمالية الضخمة التي يتمتع بها، وسيكون هذا الأمر الحل المقبول، فمن الصعب أيضاً القضاء على الدعم السريع وإنهاؤه بشكل تام.

5-  دمج قوات الدعم السريع في صفوف القوات المسلحة: الجيش لم يمانع في ضم عناصر الدعم السريع ودمجهم في صفوف الجيش كما فعل من قبل مع الحركات المسلحة، فقد كان سبب الخلاف رغبة الجيش في ضم قوات وأفراد الدعم السريع وفق ضوابط وقوانين وزارة الدفاع خلال عامين، لكن حميدتي رفض وأراد تنفيذ ذلك خلال عشر سنوات، وهو بمثابة رفض واضح ومماطلة حتى يعزز من وجود ودور قواته في أركان الدولة، ومع هذا سيقبل الجيش بدمج عناصر السريع كأحد الحلول المطروحة لتفكيك قوات الدعم السريع.

6-  استبعاد الذهاب للسيناريو السوري وتفكيك الدولة: من المستبعد توجه السودان نحو السيناريو السوري الذي تسبب في تدمير مؤسسات الدولة والبنية التحتية ومنازل المواطنين، فالجيش يعتمد على استراتيجية التحرير البطيء للمناطق من الدعم السريع لتجنب وقوع خسائر بشرية أو مادية كما يرفض استخدام القوة المميتة، مستغلاً في ذلك قدراته العسكرية، وأيضاً الرفض الشعبي للدعم السريع الذي ينبذ وجودهم ويرفض التعامل معهم بل يترك المناطق التي يدخلونها، وهو ما يحرمهم من أي حاضنة شعبية تدعمهم.