احتياجات متبادلة:
أبعاد زيارة وزير الخارجية الصيني لتركيا

احتياجات متبادلة:

أبعاد زيارة وزير الخارجية الصيني لتركيا



توجّه وزير خارجية الصين الجديد “وانغ يي” إلى تركيا، في 26 يوليو الماضي، وذلك في أول زيارة خارجية بعد توليه منصبه في 25 يوليو 2023، وذلك لبحث تعزيز العلاقات بين البلدين، وتنشيط آليات الحوار والتشاور بشكل أكثر فاعلية حول القضايا الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى تسريع الجهود المبذولة لتنسيق مبادرة “الحزام والطريق” الصينية ومبادرة “الممر الأوسط” التركية. وجاءت الزيارة في ظل مساعي الصين لاحتواء الضغوط الغربية عليها من خلال بناء اصطفاف إقليمي ودولي، وتمثل تركيا واحدة من الدول التي تعول عليها بكين في مواجهة التحركات الأمريكية ضدها. ولذلك، هدفت الزيارة بالأساس إلى معالجة الملفات الخلافية بين البلدين، بعد أن وصلت إلى الذروة خلال الشهور الماضية بسبب إدانة أنقرة السياسات الصينية ضد أقلية الإيغور المسلمة، فضلاً عن الخطاب الصيني المعارض للتحركات التركية تجاه الملف السوري.

دلالات التوقيت

جاءت زيارة وزير الخارجية الصيني عشية حراك دبلوماسي مكثف بين البلدين في الآونة الأخيرة، فقد كانت تركيا أول محطة للوزير الصيني بعد تعيينه بيوم، ما يكشف عن حجم الاهتمام الصيني بتركيا. كما شارك السفير التركي في الصين إسماعيل حقي موسى، في مؤتمر الأعمال التركي الصيني الذي عقد في 13 يوليو الماضي بمدينة إسطنبول.

على صعيد متّصل ترتبط الزيارة ارتباطاً مباشراً بمجمل التطورات السياسية التي تشهدها الساحة الإقليمية والدولية، ومن أهمها استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، والتي باتت مرشحة لمزيد من العنف، خاصة بعد انسحاب موسكو من اتفاق الحبوب في يوليو الماضي، واستهدافها الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود، وهو ما قد يتسبب في اضطراب سلاسل التوريد للغذاء، مما يحمل ارتدادات سلبية على بكين وأنقرة.

في المقابل، جاءت زيارة وزير الخارجية الصيني لتركيا في سياق تنامي الخلاف الصيني الأمريكي، واستمرار الدعم العسكري الأمريكي لجزيرة تايوان، وتجلى ذلك في إعلان البيت الأبيض في نهاية يوليو الماضي عن تقديم مساعدات عسكرية لتايوان بقيمة 345 مليون دولار تشمل معدات دفاعية وخدمات من وزارة الدفاع وتدريبات عسكرية، وهو ما أثار غضب بكين، بينما لا تزال القضايا العالقة بين تركيا، والقوى الغربية، وبخاصة واشنطن تراوح مكانها؛ إذ يُعارض الكونجرس منح تركيا الطراز المتقدم من طائرات إف 16، كما ترفض إدارة بايدن التحركات التركية في سوريا وشرق المتوسط. وهنا، يمكن فهم توجه بكين وأنقرة للعمل على تبني نهج براجماتي يعزز مصالحهما المشتركة.

ومن ناحية أخرى، جاءت زيارة الوزير الصيني في وقت تسعى فيه تركيا للحاق بعضوية منظمة شنغهاي، وكشف عن ذلك إجراء الرئيس التركي في سبتمبر الماضي عشية حضوره قمة منظمة شنغهاي للتعاون في أوزبكستان، التي عقدت في سبتمبر 2022، محادثات مع قادة المنظمة، لتوفير الدعم المطلوب لانضمام بلاده إلى المنظمة. وأكد في تصريحات له أنّ بلاده تسعى للحصول على عضوية كاملة في منظمة شنغهاي للتعاون.

على صعيد متصل، جاءت زيارة وزير خارجية الصين في إطار مساعي أنقرة وبكين لوضع خارطة طريق لتأطير عملية المبادلة بالعملات المحلية، ودعم المصالح التجارية المتبادلة، لا سيما وأن تركيا والصين اتفقتا في العام 2022 على زيادة قيمة تسهيل مبادلة العملات المحلية القائمة بينهما إلى 6 مليارات دولار، ووفقاً لمنهج يتعلق بإزالة التحديات على صعيد العلاقات الاقتصادية، وذلك بهدف تعزيز المنافع التجارية المتبادلة.

اعتبارات متبادلة

ثمة العديد من الدوافع والاعتبارات المشتركة التي تدفع نحو تطوير العلاقات بين أنقرة وبكين في التوقيت الحالي، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:

1- دفع التعاون في قطاع الصناعات الدفاعية: يرتبط الحرص التركي على تطوير العلاقات مع بكين، وغضّ الطرف عن القضايا الخلافية أو على الأقل تحييدها في المرحلة الحالية برغبة أنقرة في الاستفادة من الخبرة والتكنولوجيا الصينية في الصناعات الدفاعية، وبخاصة قطاع الطائرات المسيرة، حيث تسعى تركيا إلى نقل التكنولوجيا الصينية لطائرات (بيرقدار) المسيرة من طراز (TB2)، وهو ما يجعلها أكثر قدرة على منافسة مسيرات الدول المنافسة لها في هذا القطاع. كما يشير بعض المراقبين وتقديرات محلية صينية إلى أنّ البلدين يمكنهما التعاون في إنتاج الصواريخ المتعددة الإطلاق والصواريخ التكتيكية وحتى أنظمة الدفاع الجوي.

وربما يُعزز التعاون الدفاعي مع الصين اتجاه تركيا نحو تطوير صناعاتها الدفاعية المحلية، ولا سيما في ظل ما أشارت إليه بعض التقارير من استمرار الفتور الغربي في إمداد تركيا بتقنيات عسكرية حديثة، وهو ما تجلى على سبيل المثال في معارضة واشنطن منح أنقرة نظام الدفاع الصاروخي “باتريوت”، واتجاه بعض الدول الأوروبية إلى فرض حظر على صادراتها التسليحية إلى تركيا بسبب تدخلات أنقرة العسكرية شمال سوريا. 

2- تطوير المصالح الاقتصادية المشتركة: لا تنفصل زيارة وزير الخارجية الصيني لتركيا، واستقبال الرئيس أردوغان له بالقصر الرئاسي، عن رغبة البلدين في تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي المشترك، والحفاظ على المصالح المتبادلة. وإذا كانت تركيا تعتبر واجهة مهمة للواردات الصينية من المنتجات الزراعية والمواد الخام والمعادن، فإن تركيا باتت تعتمد بصورة لافتة في الآونة الأخيرة على الاستثمارات والصناعات الصينية، خصوصاً في مجال الطاقة المتجددة، حيث قُدرت الاستثمارات الصينية في تركيا بنحو 4 مليارات دولار، كما تمتلك الصين نحو 1060 شركة مسجلة في تركيا وفقاً لبيانات عام 2021.

في المقابل، وفي ظل تراجع الاستثمارات الغربية في تركيا بسبب رفضها للسياسات المالية التي تبناها أردوغان، والتي ترتبط بخفض معدلات الفائدة، وحاجة تركيا لاستعادة انتعاش اقتصادها بالاعتماد على أسواق بديلة، منها السوق الصينية؛ تمثل الصين أولوية اقتصادية مهمة لتركيا في هذا التوقيت، حيث أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لتركيا في آسيا، وثالث أكبر شريك في العالم. كما بلغ حجم المبادلات التجارية بين البلدين، بنهاية العام 2022، ما يقرب من 45 مليار دولار.

3- تحييد الضغوط الغربية على بكين وأنقرة: وفرت الضغوط الغربية المستمرة على بكين وأنقرة في العديد من القضايا الخلافية بيئة خصبة لتعزيز التقارب التركي الصيني. ويتوقع رفع مستوى التطور الحادث في العلاقة بين البلدين في إطار رغبتهما في مواجهة الضغوط الغربية عليهما أو على الأقل تحييدها. وإذا كانت بكين تعتبر أنقرة العضو بالناتو ورقة رابحة للتعامل مع التهديدات المحتملة للقوى الغربية، خاصة بعد إعلان حلف “الأطلسي” نهاية العام الماضي عن أن الصين أولوية استراتيجية يتعين مواجهتها نظراً للتحديات التي تمثلها، ففي المقابل تمثل الصين أولوية لتركيا في ظل استمرار الضغوط الغربية عليها شمال سوريا، بالإضافة إلى الدعم الغربي لليونان مقابل معارضة التحركات الغربية للتنقيب التركي عن مكامن الطاقة شرق المتوسط.

4- تعزيز الانفتاح الصيني على دول المنطقة: تستهدف زيارة وزير خارجية الصين لتركيا قبل أيام تعزيز علاقات بكين بدول المنطقة، وبخاصة تركيا، بعد أن نجحت في تطوير علاقاتها مع دول الخليج، ولعب دور الوسيط في التقارب الإيراني السعودي، كما تسعى بكين لاستكمال هذا الحضور من خلال التنسيق مع تركيا لحل الأزمة الأوكرانية، حيث طرحت الصين في فبراير الماضي مبادرة من 12 نقطة لتسوية الصراع الأوكراني. وتجدر الإشارة إلى أن أنقرة أعلنت عن دعمها لمبادرة السلام الصينية لحل الأزمة الأوكرانية، وأدانت تجاهل الغرب للمبادرة الصينية، واعتبرت أن الشكوك الغربية تجاه الدور الصيني ارتبط بالأساس برغبة واشنطن في عدم منح الثقة لبكين، وحتى لا ينسب إليها الفضل في إنهاء الصراع الأوكراني الروسي.

فرص مقيدة

ختاماً، يمكن القول إن التطورات الحادثة في بيئة النظام الدولي جنباً إلى جنب مع المتغيرات المحلية، تمثل بيئة خصبة لدفع فرص التقارب بين بكين وأنقرة خلال المرحلة الحالية، خاصةً في ظل سعي تركيا إلى إقامة علاقات متوازنة بين الغرب والشرق، ورغبة الصين في تعزيز تحالفاتها الإقليمية لمواجهة الضغوط الغربية. بيد أن ثمة تحديات جمة تواجه علاقة البلدين أهمها عضوية تركيا بالناتو، وانعكاسات السياسات الصينية تجاه أقلية الإيجور التي تعتبرها أنقرة امتداداً عرقياً لها، بالإضافة إلى الموقف الصيني السلبي تجاه التحركات التركية على الساحة السورية.