مصالح جوهرية:
أبعاد زيارة وزيرة الخارجية الألمانية للشرق الأوسط

مصالح جوهرية:

أبعاد زيارة وزيرة الخارجية الألمانية للشرق الأوسط



أعادت الجولة التي قامت بها وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في منطقة الشرق الأوسط، خلال الفترة من 9 إلى 12 فبراير الجاري، التأكيد على الحضور الألماني في تفاعلات المنطقة، وخاصة أنها الزيارة الأولى للوزيرة في مرحلة ما بعد أنجيلا ميركل. فالأجندة التي تتبناها الحكومة الألمانية الجديدة برئاسة المستشار أولاف شولتز، تُشير -بشكل أو بآخر- إلى درجة من الاستمرارية في سياسات برلين تجاه المنطقة لاعتبارات رئيسية في مقدمتها أن ما يحدث في المنطقة تكون له انعكاسات على أمن الدول الأوروبية بما في ذلك ألمانيا، سواء عبر التهديدات الإرهابية أو حتى من خلال تدفق اللاجئين والهجرة غير الشرعية. وبموازاة هذه التهديدات، فإن ثمة مصالح جوهرية تحرك السياسة الألمانية في منطقة الشرق الأوسط، وهذه المصالح تحتم على برلين مواصلة التدخل في قضايا المنطقة.

دلالات عديدة

لا تنفصل زيارة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى منطقة الشرق الأوسط، خلال الفترة من 9 إلى 12 فبراير الجاري، والتي شملت إسرائيل والأراضي الفلسطينية والأردن ومصر، عن مسار السياسة الخارجية الألمانية تجاه المنطقة خلال السنوات الماضية، والتي كانت تستند إلى ضرورة الانخراط في قضايا المنطقة باعتبارها متداخلة مع المصالح الألمانية، ناهيك عن إدراك صانع القرار الألماني أن القدرات والمقومات الألمانية تحتم على برلين القيام بدور ما في تفاعلات المنطقة. وعطفاً على هذا، يمكن القول إن زيارة وزيرة الخارجية الألمانية تستدعي عدداً من الدلالات الرئيسية التي تتمثل في:

1– دعم المكانة الدولية لبرلين: وهو محدد هام للتحركات الألمانية على الساحة الدولية، لأن برلين تدرك أنها تمتلك المقومات الكافية لتعزيز موقعها كدولة فاعلة في النظام الدولي، وبصورة منفصلة عن الدول الأخرى، سواء كانت الدول الأوروبية أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل هذا ما تؤكد عليه وثيقة الائتلاف الألماني الحاكم، التي صدرت خلال شهر نوفمبر الماضي، ففي كافة محاور الوثيقة يتم تكرار مصطلحات من قبيل المكانة الألمانية والدور العالمي، كما تشير الوثيقة إلى أن “الائتلاف يدرك المسئولية العالمية التي تتحملها ألمانيا، باعتبارها رابع أكبر اقتصاد في العالم. ولذا، فإن الحكومة ستعمل على تعميق شراكاتها في السياسات الخارجية والأمنية والإنمائية”.

ولا يمكن إغفال أن هذه المقولات تعكس إدراكاً من قبل صانع القرار لأبعاد المكانة الألمانية، وهو ما يؤثر بالتبعية على تعاطي برلين مع منطقة الشرق الأوسط، إذ تظل المنطقة حيزاً هاماً للتكريس للمكانة الألمانية، ولعل هذا ما أشارت إليه وزيرة الخارجية الألمانية قبل بداية زيارتها للمنطقة حينما ذكرت أن الجولة في المنطقة تستهدف أولاً التأكيد على أن ألمانيا لا تزال شريكاً قوياً وموثوقاً به.

2– تعزيز التحالفات التقليدية القائمة: تشير الزيارة إلى حرص برلين على الحفاظ على تحالفاتها في المنطقة، وفي مقدمتها التحالف مع إسرائيل، وهو ما أوضحته وثيقة الائتلاف الألماني الحاكم التي ذكرت أن “العلاقات الألمانية الإسرائيلية علاقات وثيقة لا يمكن التراجع عنها”، حيث يعتبر أمن إسرائيل مسألة حيوية بالنسبة لألمانيا، وتضمنت الوثيقة إدانة أي تهديد لإسرائيل، فضلاً عن التأكيد على أهمية تطوير العلاقات الألمانية-الإسرائيلية من خلال بعض الأدوات مثل إنشاء منظمة شبابية ألمانية-إسرائيلية. وخلال الزيارة، أعادت وزيرة الخارجية الألمانية التأكيد على التزام ألمانيا بأمن إسرائيل، كما ذكرت أن تزويد إسرائيل بالغواصات الألمانية يتسق مع المسئولية التاريخية لألمانيا عن أمن إسرائيل.

3- المساهمة في جهود تسوية القضية الفلسطينية: بالرغم من التأكيد الألماني على أهمية العلاقات مع إسرائيل، فقد حرصت برلين على المساهمة في جهود حلحلة القضية الفلسطينية، وهو أمر ربما ينطوي على محاولة لإكساب السياسة الألمانية في المنطقة، في عهد المستشار الجديد أولاف شولتز، المزيد من الزخم؛ إذ تتبنى الحكومة الجديدة الخطوطَ العريضة نفسها التي وضعتها المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل تجاه القضية الفلسطينية، والتي تشير إلى التزام ألمانيا بحل الدولتين، وكذلك تقديم الدعم المالي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).

4– تزايد الاهتمام بدبلوماسية المناخ: تستدعي زيارة وزيرة الخارجية الألمانية للمنطقة مقاربة دبلوماسية المناخ كمدخل هام تراهن عليه الحكومة الألمانية الجديدة لتعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، ولا سيما أن برلين سعت خلال السنوات الأخيرة إلى دفع مبادرات الاقتصاد الأخضر والحماية من تغيرات المناخ والوصول إلى اقتصاديات خالية من الكربون. وفي هذا الإطار، أعلنت برلين أنها ستدخل في شراكات مع أطراف عديدة، بما في ذلك بعض دول الشرق الأوسط، من أجل دعم مبادرات الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة، ولعل هذا ما أشارت إليه وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك قبل بداية جولتها في المنطقة، حينما قالت: “أريد أن أبحث في كل محطة من محطات رحلتي، عن فرص للعمل معاً بشكل أوثق بشأن سياسة المناخ والطاقة، سواء كان ذلك في التوسع في استخدام الطاقات المتجددة، أو تأمين احتياطيات المياه أو حماية الموارد الطبيعية”، وأضافت: “بصفتها المكان التالي لعقد قمة المناخ العالمية، فإن لمصر دوراً خاصاً تقوم به، وسأقترح هناك على نظيري أن نتشارك في رئاسة حوار بيترسبرج بشأن المناخ، الذي نستضيفه في يوليو”.

5– تكريس الصورة الإيجابية لدى الدول الأخرى: استبطنت زيارة وزيرة الخارجية الألمانية للمنطقة محاولة من قبل برلين لتعزيز صورتها الإيجابية، وخاصة من زاوية المساعدات الإنمائية والمساهمة في تقليص حدة الأزمات الإنسانية في المنطقة. فخلال المؤتمر الصحفي المشترك بين الوزيرة الألمانية ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وشئون المغتربين الأردني أيمن الصفدي، في عمّان في 11 فبراير الجاري، حرصت الوزيرة الألمانية على الإشارة إلى زيارتها لمخيم الطالبية للاجئين الفلسطينيين، وأضافت أن بلادها “مستمرة في تقديم المساعدة وإيجاد الآفاق للاجئين أيضاً”. ولا يمكن إغفال أن هذه التصريحات تتسق مع البرنامج المعلن للحكومة الألمانية الجديدة، والتي أكدت على التزام ألمانيا الإنساني عبر تحسين وصول المساعدات الإنسانية في مناطق الصراع وتوفير حماية أفضل للمساعدين.

6– التحرك في ملفات إقليمية ودولية متوازية: ربما يكشف توقيت زيارة وزيرة الخارجية الألمانية للمنطقة، والمتزامن مع تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية والتوتر القائم بين روسيا والدول الغربية، عن محاولة برلين التأكيد على قدرتها على التحرك في منطقة الشرق الأوسط كمنطقة مهمة للتنافس مع موسكو، ويحتمل أيضاً أن يكون للزيارة علاقة بملف الغاز، ومساعي الدول الأوروبية لتنويع مصادر الطاقة وتجنب الضغوط الروسية في هذا الملف، إذ إن الدول التي شملتها زيارة وزيرة الخارجية الألمانية تُعتبر من الدول المنتجة للغاز الطبيعي، كما أنها دول أعضاء في منتدى غاز شرق المتوسط.

7– الحفاظ على المصالح الاقتصادية الحيوية: تجمع ألمانيا بدول المنطقة بعض المصالح الاقتصادية الهامة، فهناك علاقات تجارية متميزة بين ألمانيا وعدد من دول المنطقة. علاوة على ذلك، تشكل المنطقة سوقاً هامة لاستيراد الأسلحة الألمانية. وبالرغم من تركيز برلين على أجندة الاقتصاد الأخضر والطاقة النظيفة، فإن منطقة الشرق الأوسط لا تزال مهمة بالنسبة لبرلين كمصدر للطاقة، ولذا فإن برلين حريصة على تسوية عدد من الأزمات بالمنطقة، على غرار الأزمة الليبية، بهدف الحفاظ على مستويات ملائمة من إنتاج النفط، على النحو الذي يحافظ على أسعار مناسبة للنفط عالمياً، ويحافظ على استقرار الاقتصاد العالمي الذي لا يزال يواجه تبعات فيروس كورونا المستجد.

اهتمام متجدد

إن ما سبق في مجمله يوحي في النهاية بأن الاهتمام الألماني بأزمات المنطقة ليس جديداً وإنما متجدد، في ظل شبكة المصالح التي تربط ألمانيا بدول المنطقة، فضلاً عن الارتدادات المباشرة التي تنتجها تلك الأزمات على أمن ومصالح الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا، على غرار التدفقات المستمرة للاجئين والمهاجرين، ومحاولات التنظيمات الإرهابية استغلالها للوصول إلى العواصم الأوروبية وتنفيذ عمليات إرهابية داخلها.