قام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بزيارة إلى تركيا، يومى 21 و22 يوليو الجاري، بدعوة من نظيره التركي رجب طيب أردوغان. وقد حظيت الزيارة، التي جاءت في ختام جولة شملت قطر والصين، بقدرٍ كبيرٍ من الاهتمام من جانب الطرفين، إذ تأتي في الوقت الذي تعمل فيه الجزائر على تطوير علاقاتها الخارجية مع قوى دولية على غرار روسيا والصين، وإقليمية مثل تركيا التي اكتسبت العلاقات معها زخماً متصاعداً منذ تولي الرئيس عبدالمجيد تبون مقاليد منصبه في نهاية عام 2019. كما أن الزيارة، وهى الثانية للرئيس الجزائري في غضون عام تقريباً، تأتي في إطار سياق مضطرب للعلاقات بين تركيا وروسيا بسبب الموافقة الأوّلية التي أبدتها الأولى على ضم السويد إلى عضوية حلف “الناتو”، وحرصها على تطوير العلاقات مع أوكرانيا، على نحو قد يضع تركيا في مرمى الضغوط الروسية، خاصة في قطاع الغاز، رغم العلاقات القوية التي تؤسسها الدولتان.
مؤشرات عديدة
شهدت العلاقات التركية-الجزائرية تطوراً لافتاً خلال السنوات الماضية، كشفت عنه العديد من المؤشرات، كان أبرزها في 10 فبراير الماضي، حيث قدمت الجزائر مساعدات بقيمة 30 مليون دولار إلى تركيا عقب الزلزال الذى وقع في 6 من هذا الشهر. كما أرسلت الجزائر إلى مناطق الزلزال فريق بحث وإنقاذ، ووفداً طبياً من الهلال الأحمر.
ولم تقتصر مؤشرات التطور على ما سبق، ففي 19 يونيو الفائت قدم الرئيس الجزائري تبون “وسام الاستحقاق الوطني الجزائري” بدرجة “عشير” إلى السفيرة التركية في الجزائر ماهينور أوزديمير غوكتاش، والتي تتولى حالياً منصب وزيرة الأسرة والشئون الاجتماعية في الحكومة التركية الجديدة التي تم تشكيلها في أعقاب انتهاء الانتخابات الرئاسية بفوز الرئيس رجب طيب أردوغان بفترة رئاسية جديدة. وتمثل هذه الخطوة سابقة أولى تجاه سفير دولة أجنبية في الجزائر. وقد أشارت السفيرة السابقة والوزيرة الحالية إلى أن أول زيارة لرئيس دولة أجنبية إلى الجزائر بعد انتخاب الرئيس تبون كانت زيارة الرئيس أردوغان.
كما اتفقت الدولتان على تعزيز الروابط الثقافية، حيث أقرتا، في 10 ديسمبر الماضي، عشية اجتماع مجموعة التخطيط المشتركة، افتتاح مراكز ثقافية في الجزائر واسطنبول بشكل متبادل بالإضافة إلى التوسع في نشاط مدارس “وقف المعارف التركية”.
وكانت العلاقات بين الدولتين قد شهدت نقلة نوعية كبيرة منذ وصول الرئيس تبون للسلطة، وظهر ذلك في مصادقة الأخير، في 4 يونيو 2021، على اتفاق حول الملاحة البحرية مع تركيا، والذى يشمل نقل الركاب والبضائع إلى جانب التعاون التقني في بناء السفن وإصلاحها وتشييد الموانئ.
اعتبارات مختلفة
يمكن تفسير سعى الجزائر وتركيا إلى تطوير العلاقات الثنائية في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد التوتر مع بعض الدول الغربية: وذلك نتيجة اتساع نطاق الخلافات بين الطرفين حول العديد من الملفات، على نحو دفع الجزائر إلى محاولة توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها على الساحة الدولية عبر تطوير العلاقات الثنائية مع قوى عديدة مثل تركيا، يمكن أن تساعدها في تقليص حدة الضغوط الغربية المفروضة عليها، والتي وصلت إلى حد دعوة 27 عضواً في الكونجرس الأمريكي، في أول أكتوبر 2022، إلى فرض عقوبات عليها بسبب توقيعها صفقات أسلحة مع روسيا بقيمة 7 مليار دولار. ورغم الجهود التي بذلت من أجل الوصول إلى تسوية للخلافات العالقة بين الجزائر وفرنسا، إلا أنها ما زالت تواجه عقبات عديدة على غرار تشدد السلطات الفرنسية في إصدار التأشيرات لكل رعايا الدول المغاربية، بالإضافة إلى ترحيل المهاجرين الجزائريين غير النظاميين، وانتقاد الأوضاع الحقوقية في الجزائر.
2- تطوير الشراكة العسكرية مع تركيا: لا تنفصل زيارة تبون إلى تركيا عن رغبة الجزائر في تعزيز ترسانتها العسكرية، والتوسع في استيراد الأسلحة من تركيا، وخاصة في مجال الطائرات المسيرة. ويبدو أن المسيرات التركية تمثل أولوية استراتيجية للجزائر. كما تسعى الأخيرة إلى استكشاف مزيد من فرص التعاون مع تركيا في مجال التكنولوجيا الدفاعية، وذلك في ضوء محاولة الجزائر التوسع في برامج الصناعات الدفاعية المحلية.
3- إعادة التموضع التركي في غرب أفريقيا: تدرك تركيا أن تطوير العلاقات مع الجزائر يمثل مدخلاً استراتيجياً لتعزيز علاقاتها مع بعض دول غرب أفريقيا، خاصة بعد تراجع حضور بعض الدول الغربية، على غرار فرنسا، التي أصبح التوتر عنواناً رئيسياً في علاقاتها مع بعض دول تلك المنطقة، مثل مالي وبوركينافاسو، على نحو اضطرت معه إلى سحب قواتها العسكرية منها، وهو ما ترى أنقرة أنه يمكن أن يوفر مناخاً مواتياً لها لتحقيق هذا الهدف. وقد كانت التطورات السياسية والأمنية التي طرأت على الساحة الداخلية في مالي أحد المحاور الرئيسية التي أجريت حولها المباحثات بين الرئيسين تبون وأردوغان خلال زيارة الأول إلى اسطنبول، خاصة مع تصاعد حدة المواجهات بين القوات الحكومية والتنظيمات الإرهابية، لا سيما تنظيم “داعش”، وبعد انتهاء مهمة بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي “مينوسما” بقرار من مجلس الأمن الدولي في 30 يونيو الفائت، حيث تبدي قوى عديدة قلقاً من أن ذلك قد يفرض تداعيات سلبية مختلفة، على غرار اتساع نطاق الأنشطة التي تقوم بها تلك التنظيمات الإرهابية، والتي يمكن أن تمتد إلى دول الجوار.
4- تأمين مصادر بديلة للغاز: رغم أن تركيا تبدو حريصة على مواصلة تأسيس علاقات قوية مع روسيا، إلا أن ذلك لا ينفي أنها تسعى في الوقت نفسه إلى الاحتفاظ ببدائل فيما يتعلق بواردات الغاز تحديداً، خاصة أن هذه العلاقات القوية مع روسيا لم تمنع ظهور تباينات في السياسات التي تتبعها الدولتان حول بعض القضايا، على غرار موقف تركيا من ضم السويد إلى حلف “الناتو”، وحرصها على تطوير العلاقات مع أوكرانيا، والذي بدا جلياً خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى تركيا في 7 يوليو الجاري. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن الجزائر تعد ثالث أكبر مورد للغاز إلى تركيا بعد كل من روسيا وإيران. وتصل كميات الغاز التي تقوم شركة “سوناطراك” الجزائرية بتوريدها إلى تركيا إلى 5 مليار متر مكعب سنوياً.
توافق ملحوظ
ختاماً،يمكن القول إنه في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة التوتر في العلاقات بين الجزائر وبعض الدول الغربية، بالتوازي مع استمرار الخلافات بين الأخيرة وتركيا حول بعض القضايا، تتجه الدولتان نحو رفع مستوى العلاقات الثنائية فيما بينهما، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وهو ما قد يمكنهما من تحييد الضغوط الغربية وتوسيع نطاق التنسيق حول التطورات التي تشهدها العديد من الملفات الإقليمية والدولية التي تحظى باهتمام خاص من جانبهما.