تطوّر كاشف:
أبعاد زيارة الرئيس التركي أردوغان للجزائر

تطوّر كاشف:

أبعاد زيارة الرئيس التركي أردوغان للجزائر



قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة رسمية إلى الجزائر، في الفترة من 21- 22 نوفمبر الجاري، بدعوة من نظيره الجزائري عبدالمجيد تبون. وقد أثارت هذه الزيارة مستوى متزايداً من الاهتمام، إذ تأتي في الوقت الذي تتصاعد فيه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بجانب استمرار ارتدادات الحرب الروسية الأوكرانية، ورغبة أنقرة في تعميق علاقاتها مع الجزائر لتعويض احتياجاتها من الغاز. إضافةً إلى ذلك، فإن الزيارة تتزامن مع مساعي الجزائر للحصول على دعم دولي وإقليمي لمقاربتها حيال أزمة الصحراء المغربية، بعدما تمكن المغرب من قطع شوط واسع على صعيد تأمين مواقف خارجية داعمة لرؤيته لحل أزمة الصحراء.

سياقات مركبة

ثمة سياقات متنوعة ومركبة تقاطعت مع زيارة الرئيس التركي إلى الجزائر، وعلى رأسها تنامي المصالح المتبادلة بين البلدين فضلاً عن السياقات الإقليمية المعقدة، ويمكن تناول أبرز هذه السياقات على النحو التالي:

1- تصاعد تطورات الحرب في غزة: تزامنت زيارة أردوغان للجزائر مع تصاعد تطورات الحرب في غزة، وتبني أنقرة مواقف عدائية تجاه الممارسات الإسرائيلية، بالإضافة إلى سعيها لتعزيز مقاربة إسلامية وعربية للتصدي للجرائم الإسرائيلية. ولذلك، فإن ملف التطورات في غزة فرض نفسه بشكل أساسي على لقاء أردوغان-تبون، وظهر ذلك في دعوة البلدين إلى توحيد المواقف لدعم الشعب الفلسطيني، لكن من دون الإعلان عن خطوة فاعلة أو لافتة لدعم الفلسطينيين.

2- تأثير التوترات بغرب أفريقيا: حملت التوترات التي شهدتها دول غرب أفريقيا خلال الأشهر الماضية انعكاسات مباشرة على مصالح البلدين في القارة الأفريقية، إذ إن كلاً منهما يرتبط بعلاقات سياسية واقتصادية مع دول الساحل التي شهدت انقلابات عسكرية. ولذلك، أبدى الطرفان حرصاً لافتاً لتنسيق المواقف بينهما بشأن دعم استقرار دول الساحل، وظهر ذلك في تصريحات وزير الخارجية التركي ونظيره الجزائري خلال لقائهما في 8 سبتمبر الماضي، فقد أكدا على عدم دعمهما للخيار العسكري في مواجهة انقلاب النيجر أو الجابون.

بالتوازي، ثمة سعي حثيث للبلدين لتوظيف السخط الحادث في دول الساحل على فرنسا، لتعزيز حضورهما على حساب استبعاد النفوذ الفرنسي في المنطقة. وتجدر الإشارة إلى أن ثمة قضايا خلافية تجمع كلاً من الجزائر وتركيا مع باريس، فبينما تعارض باريس انضمام أنقرة للتكتل الأوروبي، وتتهم أردوغان بتأميم المجال العام في الداخل التركي، فقد دخلت العلاقة مناخ الشحن مع الجزائر على خلفية عدد واسع من الملفات الشائكة، منها قضايا الذاكرة الاستعمارية، وأزمة التأشيرات، ناهيك عن الانحياز الفرنسي للمقاربة المغربية حيال أزمة الصحراء.

3- غياب الحسم للملف الليبي: لا تنفصل زيارة أردوغان للجزائر عن سياقات الملف الليبي الذي يمثل أولوية للبلدين، إذ إن ثمة مقاربة تركية جزائرية مشتركة حيال المشهد الليبي، فكلاهما يدعم حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة بقيادة عبدالحميد الدبيبة. لذلك تبدي أنقرة اهتماماً بالتنسيق مع الجزائر حيال الأزمة الليبية في التوقيت الحالي، خاصة مع حالة الاستنفار الأمني في غرب ليبيا على خلفية تغيرات هيكلية وسياسات أمنية جديدة أقدمت عليها حكومة الدبيبة، وهو ما أثار حفيظة أمازيغ ليبيا الذين يمثلون طرفاً وازناً غرب البلاد، إذ اعتبروا التغيرات الأمنية التي أقدم عليها الدبيبة تمهيداً لانقسام جديد وجراً لليبيا إلى حرب أهلية.

وتخشى تركيا من تصاعد حالة عدم الاستقرار في غرب ليبيا التي تمثل نقطة استناد استراتيجية للحضور التركي، ولذلك حرص أردوغان على تعزيز مساحات التفاهم والتنسيق مع الجزائر بشأن الأزمة الليبية، لا سيما وأن الأخيرة باتت تلعب دوراً أكثر نشاطاً في الأزمة الليبية، بالنظر إلى ما تمتلكه من قوة عسكرية ودبلوماسية مهمة في شمال أفريقيا، ولهذا سيكون لموقف الجزائر تأثير مهم على تغيير التوازنات في ليبيا، ناهيك عن أنّ العلاقة مع الجزائر تسمح لتركيا حال تفاقم الأوضاع غرب ليبيا بالحصول على الدعم من دولة مجاورة لمسرح الأحداث.

4- استمرار أزمة الصحراء المغربية: على الرغم من حرص تركيا على تبني مقاربة براجماتية حيال قضية الصحراء المغربية، والتزامها موقفاً يقوم على الحذر بالنظر إلى مصالحها الاستراتيجية مع الرباط والجزائر، إلا أن وسائل الإعلام الجزائرية سعت إلى توظيف الزيارة لإظهار الدعم الإقليمي للمقاربة الجزائرية بشأن قضية الصحراء، إذ تناقلت صحف جزائرية قريبة من مؤسسة الرئاسة تصريحات منسوبة للرئيس تبون عشية لقائه نظيره التركي، قال فيها: “سجّلنا توافقاً في وجهات النظر بين الجزائر وتركيا حول ملفات دولية على غرار مالي والنيجر والصحراء”، وتابعت: “أن أردوغان أبدى وجهة نظر قريبة من الطرح الذي يدعمه قصر المرادية”، في إشارة إلى “استفتاء تقرير المصير”.

اعتبارات متنوعة

ترتبط زيارة الرئيس التركي للجزائر في التوقيت الحالي بالعديد من الاعتبارات:

أولها، يتصل برغبة البلدين في دفع التعاون الاقتصادي، وتجلى ذلك في انعقاد الدورية الثانية لمجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين، بالإضافة إلى التوافق على ضرورة رفع معدل التبادل التجاري من 4.2 مليارات دولار إلى حدود 10 مليارات دولار، وزيادة حجم الاستثمارات التركية في الجزائر، والتي تصل قيمتها في التوقيت الحالي إلى ما يقرب من 6 مليارات دولار، وهو ما يجعل تركيا أول مستثمر أجنبي خارج قطاع المحروقات بالجزائر. ويشار في بعض الكتابات إلى وجود 1500 شركة تركية تعمل في السوق الجزائرية تغطي مجالات مختلفة، وتوفر ما يقرب من 30 ألف فرصة عمل.

بالتوازي، فإن زيارة أردوغان تحمل أولوية اقتصادية مهمة للجزائر في التوقيت الراهن، إذ تتطلع حكومة تبون إلى مساهمة أنقرة في تمويل مشروع خط سكك حديدية يمتد من تمنراست أقصى جنوبي البلاد إلى دولتي مالي والنيجر، بمجموع ستة آلاف كم، في المرحلة الأولى، لتصل الشبكة على المدى المتوسط إلى 15000 كلم، وكذلك إتمام توسيع مترو أنفاق العاصمة الجزائرية. كما تتطلع الجزائر إلى الاستفادة من الخبرة التركية في مجال صناعة سفن الصيد وصيانتها، والصيد البحري.

وثانيها، يرتبط برغبة البلدين فيمواكبة التغيرات الجيوستراتيجية في منطقة الساحل والصحراء، فثمة سعي مشترك للبلدين من أجل البناء على الفراغ الاستراتيجي الذي خلَّفه الانسحاب الفرنسي من المنطقة لصالحهما، وذلك من خلال تبني سياسات جديدة تتناسب مع تراجع النفوذ الفرنسي. بجانب ذلك، تهدف تركيا إلى توظيف الحضور الجزائري في أفريقيا لتعزيز مكانتها في غرب القارة في ضوء ما تشهده من تغيرات جيوستراتيجية، بعد الانسحاب الفرنسي، وتآكل الحضور الأمريكي.

وثالثها، يعود إلى حرص تركيا على تحييد حضور منافسيها الاستراتيجيين في شمال أفريقيا، وبخاصة موسكو وطهران وبكين، إذ حققت الدول الثلاث نجاحات لافتة في المنطقة، وهو ما يثير مخاوف أنقرة من إمكانية تراجع نفوذها لصالح منافسيها.

ورابعها، أنّ زيارة أردوغان تهدف إلى مساعدة الشركات الدفاعية التركية على توسيع فرص صادراتها للجزائر، خاصةً أن الأخيرة تعد سوقاً واعدة لتوريد المسيرات التركية، حيث تقدمت حكومة تبون في فبراير 2023 بطلب للحصول على مسيرات “العنقاء” الدفاعية، وهي واحدة من أحدث الطائرات الدفاعية التركية. ويعي أردوغان أهمية السوق الجزائرية لصادرات بلاده الدفاعية، خاصة وأن الأخيرة تعد أكبر مستورد للسلاح في أفريقيا، وتنفق ما يقرب من 10 مليارات دولار سنوياً منذ عام 2012 على الدفاع، وذلك بسبب سباق التسلح الحادث بينها وبين المغرب.

ويرتبط الاعتبار الخامس، بسعي تركيا إلى تأمين احتياجاتها من مصادر الطاقة، خاصة في ظل ارتباك أسواق النفط بسبب حرب غزة، واستمرار العقوبات الغربية على قطاع الغاز الروسي الذي تعتمد عليه تركيا بصورة أساسية لتلبية احتياجاتها. ولذلك، تمثل الجزائر بديلاً آمناً ومهماً لتركيا لتعويض الناقص الحادث في احتياجاتها من الغاز.

تحديات مستترة

ختاماً، يمكن القول إن زيارة أردوغان للجزائر، رغم أنها تأتي في ظل تغيرات إقليمية ودولية معقدة، إلا أنها جاءت كاشفة عن عمق التطور الحادث في العلاقة بين البلدين، وخاصة في الجانب الاقتصادي، بالإضافة إلى رغبة البلدين في توظيف الانسحاب الفرنسي من غرب أفريقيا لتوطيد نفوذهما. بيد أن ثمة تحديات مستترة تواجه العلاقة بينهما، منها تباين المواقف حيال تطورات أزمات الإقليم، ومنها أزمة غزة، إذ تتخذ أنقرة موقفاً شعبوياً وعدائياً تجاه تل أبيب، بينما يحرص تبون على تبني نهج براجماتي بالنظر إلى علاقات بلاده مع القوى الغربية. كما يمثل الحياد التركي حيال أزمة الصحراء تحدياً إضافيا، لا سيما وأن أنقرة تقاوم ضغوط الجزائر عليها لتأييد مقاربتها.