ارتدادات اقتصادية:
 أبعاد تصاعد مشكلات النفط في ليبيا وتداعياتها المحتملة

ارتدادات اقتصادية:

 أبعاد تصاعد مشكلات النفط في ليبيا وتداعياتها المحتملة



تتصاعد مشكلات النفط في ليبيا، لتحمل أبعاداً متعددة ومتشابكة، من أهمها: تضرر إنتاج النفط بشكل مُستمر، بسبب الإغلاقات المتكررة، التي يبدو أن بعض الجهات المتنفذة في الجنوب الليبي توافق على هذه الإغلاقات بطريقة غير مباشرة، فضلاً عمّا تؤكده تلك الإغلاقات من تنامي الخلافات بين الجنوب الليبي وحكومة غرب ليبيا، التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة. واللافت أن التداعيات الناتجة عن مشكلات النفط الليبي، وأبعادها المختلفة، تتعدد هي الأخرى، لتتمحور حول: التأثير على العملة الليبية وسعر الصرف الخاص بها في مقابل العملات الأجنبية، وكذلك إلحاق الضرر بالسمعة الاقتصادية لليبيا ومن ثم التأثير على أسواق النفط الدولية، بما يتسبب في الصراع الخارجي حول هذا النفط.

لم تكد ليبيا تنعم بالزيادة في إنتاج النفط، تلك التي تجاوزت مليوناً و200 ألف برميل خلال العام الماضي 2023، حتى أعلن مسؤولون عن حالة “القوة القاهرة” في أكبر الحقول النفطية بالبلاد، حقل الشرارة في جنوب غربي ليبيا، وذلك على خلفية إغلاق محتجين من إقليم فزان للحقل، اعتراضاً على انقطاع الوقود والغاز، وضعف الخدمات العامة والأساسية في جنوب البلاد.

وقد أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، في بيان لها، بتاريخ 7 يناير الجاري، أن “حالة القوة القاهرة تسري اعتباراً من تاريخ القرار”، في الحقل الذي يصل إنتاجه إلى ما يزيد على 300 ألف برميل يومياً، مُشيرة إلى أن “المفاوضات (مع المحتجين)، ستستمر لأجل استئناف الإنتاج في أقرب وقت ممكن”.

أبعاد متشابكة

تتعدد أبعاد الإغلاقات المتكررة لعددٍ من حقول وموانئ النفط الليبي، خاصة تلك الحقول التي يتواجد معظمها في جنوب البلاد، وذلك كما يلي:

1- الموافقة الضمنية للسلطات النافذة في الجنوب: ففي ظل استمرار الصراع السياسي بين الفرقاء الليبيين، وما يبدو من فشل واضح للمجتمع الدولي والعربي في ممارسة الضغوط لحلحلة الأزمة الليبية وإجراء انتخابات تُنهي مُعاناة الليبيين؛ فإن إغلاقات حقول النفط في منطقة الجنوب الليبي تتم بموافقة غير مباشرة من السلطات النافذة هناك، ومنها الجيش الوطني الليبي، والحكومة المنبثقة عن البرلمان، فضلاً عن الفعاليات الشعبية في المنطقة.

ضمن هذه الفعاليات، يأتي المجلس الأعلى لقبائل ومدن فزان، الذي أعلن عن دعمه للمحتجين في إغلاقهم حقل الشرارة النفطي، مُطالباً إياهم تضمين مطالب فزان في مسببات الاعتصام، والتي من بينها “دعم جهاز تنمية وتطوير المنطقة الجنوبية، وتخصيص مبلغ عشرة مليارات دينار (2.09 مليار دولار)، للإيفاء بكافة احتياجات منطقة فزان الخدمية والتنموية”.

2- تضرر إنتاج وتسويق النفط الليبي بشكل متكرر: حيث شهد قطاع النفط في ليبيا، خلال السنوات العشر الماضية، وفي العامين الأخيرين تحديداً، موجة من الإغلاقات المتكررة، طالت عدداً من الحقول والموانئ النفطية في مناطق جنوب وشرق البلاد؛ بما تسبب في خسائر تجاوزت قيمتها 16 مليار دينار (حوالي 3.59 مليار دولار أمريكي)، بحسب المؤسسة الوطنية للنفط.

ويُعد حقل الشرارة، الذي تم إغلاقه من قبل محتجين، وإعلان القوة القاهرة بشأنه، من أكبر مناطق إنتاج النفط في ليبيا، حيث يُنتج ما يزيد على 300 ألف برميل يومياً، وتديره المؤسسة الوطنية للنفط، في مشروع مشترك مع عدة شركات عالمية: “ريبسول” الإسبانية، و”توتال” الفرنسية، و”أو إم في” النمساوية، و”إكوينور” النرويجية.

وبالتالي، تؤدي تلك الإغلاقات لحقول النفط، في بلد عضو في أوبك وثالث أكبر منتج للنفط في شمال أفريقيا، إلى خسائر كبرى للدولة الليبية، التي تعتمد في بنيتها الاقتصادية بشكل رئيسي على عائدات تصدير النفط.

3- تنامي الخلافات بين جنوب البلاد وغربها: وهو ما تبدى بوضوح عبر إعلان المحتجين، في مدينة أوباري، عن إغلاق حقل الشرارة النفطي، إلى حين تحقيق “حقوق إقليم فزان”، وفق بيان لهم، حمَّلوا فيه المؤسسة الوطنية للنفط وحكومة الوحدة الوطنية منتهية الولاية، التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة، في طرابلس غرب ليبيا “مسؤولية ما سيترتب على الإغلاق من آثار سلبية”.

ورغم أن حكومة الدبيبة قد حاولت، منذ بداية الأزمة، امتصاص غضب المحتجين بإعلانها زيادة كميات الوقود المتجهة لمحطات الجنوب، كنوع من محاولة تلبية جزء من مطالب المحتجين؛ إلا أن الناطق باسم تجمع فزان، أبو بكر شريعة، قال في تصريحات صحفية، بتاريخ 8 يناير الجاري، إن “الإغلاق جاء بسبب عدم استجابة الحكومة لمطالب إقليم فزان بتوفير الخدمات والتنمية في الجنوب”؛ بما يعني تنامي الخلافات بين مناطق الجنوب الليبي والحكومة في طرابلس، ما قد يؤدي إلى تأخر استئناف الإنتاج النفطي قبل تحقيق هذه المطالب، أو على الأقل جزء كبير منها.

4- المُطالبة بحقوق فزان في الاتفاقات السياسية: إذ لم يتوقف المحتجون عند حدود المطالبة ببعض الخدمات أو التنمية في إقليم فزان جنوبي البلاد؛ ولكنهم طالبوا، عبر دعم المجلس الأعلى لقبائل ومدن فزان، بأهمية التأكيد على حقوق فزان الواردة بالاتفاقات السياسية، بخصوص المناصب السيادية، والمطالبة بالتمثيل العادل لأبناء الجنوب الليبي في المناصب الحكومة.

وبناءً على ذلك، طالب المحتجون “بمنح وتفويض كافة صلاحيات واختصاصات حكومة الوحدة الوطنية، المتعلقة بالإشراف والمتابعة للمشاريع التنموية الخاصة بمنطقة فزان، إلى نائب رئيس الحكومة عن الجنوب”، هذا إضافة إلى المطالبة بنسبة 33 بالمائة لأبناء الجنوب في السلك الدبلوماسي والقنصلي والملحقيات التابعة لوزارة الخارجية في الخارج. 

تداعيات مختلفة

ضمن أهم التداعيات الناتجة عن إغلاق حقل الشرارة، والإغلاقات المتكررة له، ولعديد من الحقول والموانئ النفطية في ليبيا، تبدو التداعيات التالية:

1- التأثير على سعر صرف العملة الليبية: حيث تحظى أزمة حقل الشرارة في الجنوب بالاهتمام في شمال البلاد، وذلك من منظور مدى تأثير التراجع في الإنتاج النفطي، على الخدمات عموماً، وعلى سعر صرف العملة الليبية أمام العملات الأجنبية بشكل خاص. إذ تتنامى المخاوف من تداعيات هذا الإغلاق على الاقتصاد المترنح في الأصل منذ سنوات، خاصة أن هذه الأزمة تأتي في وقت يواجه فيه الدينار الليبي صعوبات كبيرة للمحافظة على قيمته.

والملاحظ أن مثل هذا التأثير على سعر صرف الدينار، وتراجع قيمته السوقية، سوف ينعكس على كافة أنواع السلع والخدمات في ليبيا، من حيث إنها تعتمد بشكل كبير على الاستيراد في توفير السلع الاستراتيجية، فما يتم إنتاجه بالداخل الليبي لا يُغطي إلا قليلاً من احتياجات السوق المحلية.

2- إلحاق الضرر بسمعة ليبيا الاقتصادية: إذ إن أهم التداعيات الناتجة عن إغلاق حقل ضخم بحجم حقل الشرارة، الذي يُنتج وحده “رُبع” الإنتاج اليومي للخام في ليبيا، هو الإضرار بسمعة ليبيا الاقتصادية، بحسب تصريحات وزير النفط والغاز الليبي محمد عون، الذي أكد في تصريحاته أن “الإغلاق سيؤدي إلى نقص الوقود والكهرباء”.

واللافت أن التأكيد على التداعيات السلبية للإغلاق تجاوز تصريحات الوزير، إلى بيان رسمي لوزارة النفط والغاز في حكومة الوحدة الوطنية، الذي أكد على أن هذا الإغلاق سيؤدي إلى “فقدان الثقة في ديمومة تزويد السوق العالمية بالنفط الليبي، ليبقى دون تسويق أو يقل الطلب عليه”. ولم يكتفِ بيان الوزارة بذلك، بل أضاف: “إن هذه الحوادث تؤدي إلى احتمالية فقدان المستوردين للنفط الليبي، لتخوفهم من عدم الاستقرار في الإمدادات”.

3- التأثير على النفط في الأسواق الدولية: فالحجم الكبير الذي يوفره حقل الشرارة الليبي، من الإمدادات النفطية، أدى إلى تجاوز تأثيره المستوى المحلي، ليمتد إلى الأسواق الدولية للنفط. فقد تسبب هذا الإغلاق في ارتفاع أسعار النفط بما نسبته 3 بالمائة، مع نهاية الأسبوع الماضي، بحسب منصة الطاقة على موقعها الإلكتروني؛ حيث تجاوز سعر خام برنت العالمي 79 دولاراً للبرميل.

واللافت أن وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية قد بينت، الأحد 7 يناير الجاري، أن توقيت إغلاق حقل الشرارة الليبي، هو ما ضاعف تأثيره على الأسواق الدولية، مؤكدة أن “وقف الإمدادات في ليبيا قد يدعم الأسعار العالمية، لكن القلق الأكبر وعدم اليقين في الأسواق، لا يزال يتركز حول التوترات في الشرق الأوسط”.

4- تزايد الصراع الإقليمي على ثروات فزان: فرغم ما تُعانيه مناطق الجنوب الليبي من تهميش دائم، ومستمر، فإن بها منابع النفط والغاز والماء، فضلاً عن كونها “ثرية” بالمعادن النفيسة، وتُمثل بوابة للصحراء الكبرى الأفريقية ووسط أفريقيا عموماً. ومن ثم يتزايد التنافس الدولي على ثروات إقليم فزان، وموقعه الاستراتيجي، والذي يمكن أن يتحول إلى ساحة للصراع بين الروس والغرب، خاصة أنه يحتوي على عدد من الحقول النفطية المهمة، فضلاً عن التنافس بين إيطاليا وفرنسا في هذا الإقليم، الذي يُعاني في الأصل من توترات أمنية مستمرة.

هزة اقتصادية

في هذا السياق، يُمكن القول إن إغلاق حقل الشرارة النفطي، والإغلاقات المتكررة لعدد من حقول وموانئ النفط، خاصة في منطقة الجنوب الليبي؛ يُساهم فيما يُمكن توصيفه “الهزة الاقتصادية”، لما له من ارتدادات قد تطال الكثير من القطاعات الحيوية في ليبيا، خاصة في إطار ملاحظة أن حقل الشرارة هذا يُنتج حوالي “ثُلث” إنتاج ليبيا من النفط الخام يومياً، وأن الإغلاقات المتكررة خلال العام الفائت، عام 2023، قد تسببت في تراجع إيرادات النفط إلى 99.1 مليار دينار (حوالي 20.69 مليار دولار)، بعد أن كانت 105.4 مليار دينار، في عام 2022، بحسب المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا.

بل، إن هذا التأثير لا يتوقف عند حدود الداخل الليبي، ولكنه يمتد إلى الأسواق النفطية الدولية، وهو ما تبدى بوضوح عبر ارتفاع أسعار النفط بما نسبته 3 بالمائة، إضافة إلى وصول خام برينت العالمي إلى 79 دولاراً للبرميل.