درء التهديدات:
أبعاد تصاعد التوترات على الحدود بين الأردن وسوريا

درء التهديدات:

أبعاد تصاعد التوترات على الحدود بين الأردن وسوريا



سوف ينجم عن الغارات الجوية التي يشنها الأردن ضد مخابئ مهربي المخدرات على الحدود مع سوريا جملة من التداعيات، يأتي من أبرزها: التأكيد على دور الخيار العسكري في مواجهة مهربي المخدرات، وتكثيف المباحثات الأردنية مع إيران لمنع مليشياتها من تهريب المخدرات، والضغط الأردني لإعادة اللاجئين السوريين لبلادهم، وتعزيز أوجه التعاون بين الأردن وأمريكا لمواجهة حلفاء إيران، واتجاه الأردن لإقامة منطقة عازلة على الحدود مع سوريا، واستمرار التحركات الدبلوماسية الأردنية للضغط على الحكومة السورية.

فلا يزال التصعيد على الحدود الشمالية بين الأردن وسوريا قائماً حتى اللحظة الراهنة، ففي الساعات الأولى من فجر يوم 18 ديسمبر 2023، وقعت اشتباكات مسلحة بين قوات حرس الحدود الأردنية ومجموعات مسلحة على الحدود الشمالية تحاول تهريب المخدرات ومجموعة متنوعة من الأسلحة الصاروخية والألغام، وهو ما دفع الأردن صباح 19 ديسمبر 2023، لشنّ سلسلة من “الغارات الجوية” داخل سوريا (جارتها الشمالية) ضد مخابئ لمهربي المخدرات المدعومين من إيران، وهي العملية التي لطالما حذرت منها عمّان على مدار السنوات الماضية.

دوافع حاكمة

ويمكن القول إن توسع عملية التصعيد بين قوات حرس الحدود الأردنية ومهربي المخدرات، يأتي جراء ثلاثة أسباب رئيسية، يمكن إيضاحها على النحو التالي:

1- رفض سوريا الانصياع لتحذيرات أردنية سابقة بشن عملية عسكرية: يأتي اتجاه الأردن لشن غارات داخل الأراضي السورية لاستهداف عصابات تهريب المخدرات، بعد أشهر قليلة على إعلان وزير الخارجية الأردني “أيمن الصفدي” مطلع مايو 2023، أن بلاده ستطلق “عملية عسكرية” داخل الأراضي السورية لمواجهة حرب المخدرات التي تواجه المملكة الهاشمية منذ 2011، في حال لم يتصدَّ النظام السوري لهذه العصابات ويوقف عمليات التهريب التي تهدد ليس فقط الأردن وإنما دول المنطقة المجاورة وخاصة العراق والسعودية اللذين لطالما أعربا عن قلقهما من مخدر “الكبتاجون” الذي يتم تهريبه من الأراضي السورية.

2- استغلال المهربين للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة: ارتفاع التوترات على الحدود الشمالية بين الأردن وسوريا التي يبلغ طولها 375 كم، يأتي هذه المرة بالتزامن مع شن إسرائيل “حرباً ضارية” على قطاع غزة رداً على عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها فصائل المقاومة الفلسطينية فجر السابع من أكتوبر 2023. وعليه، فإن الفصائل تحاول استغلال هذه الحرب وحالة التوتر التي تشهدها دول الإقليم جرائها بتوسيع عمليات تهريب المخدرات في محاولة منها لرفع حدة عدم الاستقرار الإقليمي، إلا أن القوات الأردنية وقفت لها بالمرصاد، ونجم عن الغارات الأردنية التي استهدفت مخابئ للمهربين داخل سوريا، قصف منازل لكبار تجار المخدرات، خاصة بمحافظتي درعا والسويداء، وفقاً لما أعلنته مصادر استخباراتية إقليمية لوكالة “رويترز” في 19 ديسمبر الجاري.

3- تطور أساليب عمليات تهريب المخدرات: إن من أبرز الأسباب التي دفعت الأردن لشن غارات جوية داخل الأراضي السورية هذه المرة وعدم الاكتفاء بمواجهة المهربين على المنطقة الحدودية، هو تطور الوسائل التي بات يعتمد عليها مهربو المخدرات، كـ”البالونات الطائرة” (مختلفة الأحجام والتي تحمل بداخلها مجموعة متنوعة وهائلة من المواد المخدرة)، وهو ما كشفت عنه القوات المسلحة الأردنية في 18 سبتمبر 2023، والتي أفادت أيضاً بتسجيلها منذ بداية العام الحالي وحتى شهر أغسطس الماضي (88) حالة طيران مسيّرة استخدمها المهربون على واجهات المناطق العسكرية المختلفة موزعة بين حالات “الإسقاط أو الرصد والتشويش”، وهو الأمر الذي دفع بمصادر عسكرية أردنية لوصف هذه الأدوات بـ”غير التقليدية”، كما قال وزير الخارجية الأردني “أيمن الصفدي”، في تصريحات لوسائل إعلام أردنية في سبتمبر الماضي: “عملية تهريب المخدرات، عملية منظمة، والمهربون يمتلكون قدرات كبيرة”، وعليه، فإن استخدام المهربين للمسيرات دفع الأردن لاستخدام سلاح الجو أكثر من مرة لضربها وإسقاطها.

تحركات أردنية

في ضوء ما تقدم، فإن التوترات على الحدود بين الأردن وسوريا قد تدفع الأولى للتحرك في عدة اتجاهات من أجل وضع حد لهذه الآفة التي تهدد جميع دول الإقليم، وهو ما ألمح إليه مؤخراً المتحدث باسم مجلس الوزراء الأردني “مهند مبيضين”، قائلاً: “الاحتمالات مفتوحة أمام الأردن في جميع الخيارات، والقوات المسلحة الأردنية هي من سيتّخذ القرار بأي إجراءات لوقف هذه الفوضى”، وعليه فإن تحركات الأردن قد تنصب في الآتي:

1- التأكيد على دور الخيار العسكري في مواجهة مهربي المخدرات: إن اتجاه الأردن لدفع طائراتها الحربية لشن غارات نادرة بالداخل السوري منذ بدء الصراع الذي مر عليه أكثر من عقد، يعني أن المملكة الأردنية استنفدت كل السبل الدبلوماسية بشأن محاولة حل تلك الأزمة، خاصة مع الحكومة السورية التي تنفي تورطها في عملية صناعة المخدرات أو تهريبها عبر الحدود، وعليه فقد أرادت المملكة التأكيد على أن تلويحها بشن عملية عسكرية موسعة داخل الأراضي السورية بات الخيار الرئيسي لحماية أمنها، لرؤيتها أن هذا الخيار هو الوسيلة الحالية التي يمكن من خلالها استهداف مخابئ كبار تجار المخدرات داخل سوريا، إذ كشفت مصادر مخابراتية لوكالة “رويترز” أن الغارات الأردنية داخل سوريا نجم عنها قصف منزل يُشتبه في أنّه لتاجر مخدرات كبير في بلدة صلخد بمحافظة السويداء، وهذه محاولة أردنية للضغط على عصابات تهريب المخدرات لوقف تهديد الحدود الأردنية.

2- استمرار التحركات الدبلوماسية الأردنية للضغط على الحكومة السورية: بجانب الخيار العسكري، فإن الأردن لن يتوقف عن الأدوات الدبلوماسية في محاولة للضغط على نظام الرئيس السوري “بشار الأسد” للمضي قدماً في تنفيذ اتفاق فاعل معه يرمي إلى تعزيز أوجه التعاون لـ”تحديد مصادر إنتاج المخدرات في سوريا وتهريبها، والجهات التي تنظم وتدير وتنفذ هذه العمليات عبر الحدود مع الأردن والعراق، واتخاذ الخطوات اللازمة لإنهاء عمليات التهريب”، وهي بنود الاتفاق التي سبق وأعلن عنها وزير خارجية الأردن في مايو الماضي عقب عودة سوريا للجامعة العربية، بجانب أنه بعد تهديد “الصفدي” خلال حواره مع قناة CNN، في 5 مايو 2023، بشن عملية عسكرية داخل الأراضي السورية لمواجهة عمليات تهريب المخدرات، فقد أجرى مطلع يوليو 2023، زيارة إلى العاصمة دمشق، وبحث خلالها مع الرئيس “الأسد” ملفي اللاجئين السوريين ومكافحة تهريب المخدرات، ودعا لضرورة التعاون المشترك لمواجهة تهريب المخدرات عبر سوريا إلى الأردن، وأعلن عن اتفاقه مع نظيره السوري “فيصل المقداد” على “تشكيل اللجنة المشتركة لمكافحة تهريب المخدرات”، وبالفعل عقدت اللجنة اجتماعها الأول لها في عمان في 23 يوليو الماضي، ورغم ذلك توسعت عمليات التهريب خاصة خلال شهري أغسطس وسبتمبر الماضيين.

3- اتجاه الأردن لإقامة منطقة عازلة على الحدود مع سوريا: إذا فشلت كل السبل في دفع النظام السوري للتعاون الفاعل مع الحكومة الأردنية لمواجهة عمليات التهريب عبر الحدود، فإن عمان قد تتجه لمحاولة الحصول على موافقة دولية لإقامة “منطقة عازلة” في الجنوب السوري، وهو ما سيتطلب استمرار عمليات الطيران لسلاح الجو الأردني من أجل توفير الحماية اللازمة لهذه المنطقة داخل الأراضي السورية، وصد أي محاولة من قبل سلاح المدفعية السوري إذا قام بقصف هذه المنطقة، وقد كشفت بعض التكهنات أن عمان تسعى بمساعدة واشنطن لإقامة منطقة عازلة تمتد من منطقة “التنف” السورية شرق شمال الأردن حتى “درعا” في الشمال الغربي من الحدود الأردنية السورية وبعمق 35 كم، وذلك بعدما طلب العاهل الأردني “عبدالله الثاني” من وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” خلال زيارته للأردن في مارس الماضي مساعدة واشنطن لمكافحة عمليات تهريب المخدرات وضبط الحدود، ويرجع ذلك لوجود قوات أمريكية بالقرب من الحدود في قاعدة “التنف”.

4- تعزيز أوجه التعاون بين الأردن وأمريكا لمواجهة حلفاء إيران: توسّع عمليات تهريب المخدرات عبر الحدود مع سوريا من قبل عصابات موالية لإيران، وتزايد استهداف مصالح إسرائيل الحيوية في البحر الأحمر وباب المندب من قبل المليشيا الحوثية المدعومة من إيران؛ قد يدفع كلاً من الأردن وأمريكا لتعزيز أوجه التعاون الأمني والعسكري والمخابراتي لمحاربة هذه الجماعات التي تحركها طهران من أجل تهديد المنطقة والعالم، وقد يكون ذلك السبب في تزايد تحركات المسؤولين العسكريين الأمريكيين إلى الأردن خلال الفترة الأخيرة، ومن أبرزها: زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكي “مارك ميلي” للعاصمة عمّان أواخر أغسطس الماضي، ووقتها أكد على “تعزيز التعاون بين القوات الأردنية والأمريكية لمحاربة الآفة المشتركة لتهريب المخدرات والإرهاب”، وزيارة نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط “دانا سترول” في 11 سبتمبر الماضي، التي شددت وقتها على استمرار التنسيق الأمريكي مع الأردن لمكافحة عمليات تهريب المخدرات التي تهدد الأمن الأردني والإقليمي.

5- الضغط الأردني لإعادة اللاجئين السوريين لبلادهم: تستضيف المملكة الهاشيمة على أراضيها وفقاً للإحصائيات الأردنية الأخيرة ما يقرب من 1.6 مليون لاجئ سوري بتكلفة تجاوزت عشرة مليارات دولار، ولذلك فإن استمرار تعنت النظام السوري في تعزيز التعاون مع دول المنطقة لمواجهة عمليات تهريب المخدرات، قد يدفع بالأردن لتشديد الرقابة الأمنية على الحدود الأردنية، ومنع أية محاولات لتدفق لاجئين سوريين إلى أراضيها مرة أخرى، خاصة أن الفترة الأخيرة شهدت احتجاجات داخل الأراضي السورية رافضة لنظام “الأسد”، وستزيد عمّان من الضغط على الأخير لإعادة اللاجئين لبلادهم مرة أخرى، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية الأردني خلال زيارته الأخيرة لدمشق ولقائه الرئيس “الأسد”، قائلاً وقتها: “الأردن يقدم كل ما يستطيعه من أجل توفير العيش الكريم للاجئين، لكن ما نؤكده أن مستقبل اللاجئين هو في بلدهم، وحل قضية اللاجئين يكون في عودة اللاجئين إلى بلدهم، وإيجاد الظروف الكفيلة بعودتهم، وتوفير العيش الكريم لهم”.

6- تكثيف المباحثات الأردنية مع إيران لمنع مليشياتها من تهريب المخدرات: على صعيد آخر، قد يتجه الأردن لخيارين بشأن إيران، أولهما، التواصل المباشر مع المسؤولين الإيرانيين من أجل وقف عمليات تهريب المخدرات، إذ أعلن المتحدث باسم الحكومة الأردنية، في 18 ديسمبر الجاري، أن بلاده أبلغت إيران بضرورة الضغط على مليشياتها بسوريا لوقف عمليات تهريب المخدرات، كما أن وزير الخارجية الأردني خلال لقائه الأخير مع نظيره الإيراني “حسين أمير عبداللهيان”، في 13 ديسمبر الجاري، على هامش أعمال منتدى اللاجئين بجنيف السويسرية، حذر من استمرار محاولات تهريب المخدرات والسلاح من سوريا إلى الأردن. وفي لقاء آخر جمع الوزيرين في سبتمبر الماضي، فقد أعلن “الصفدي” حرص بلاده على تطوير العلاقات مع إيران وإنهاء التوترات بالمنطقة، مشدداً على ضرورة تعزيز “الحوار الأمني” في المقام الأول.

وأما الخيار الثاني، فقد يكون باتجاه الأردن لحث الدول العربية خاصة التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع إيران وتضررت من عمليات تهريب المخدرات، كالمملكة العربية السعودية، على الضغط على إيران والنظام السوري لوضع حد لعمليات تهريب المخدرات وعدم استخدام كلا الدولتين (طهران، دمشق) هذه الآفة لمساومة دول الإقليم لتحقيق أهدافهما المزعومة.

حزم أردني

خلاصة القول، إن الأردن سيحاول بكل الطرق خلال الفترة المقبلة استخدام جميع الأدوات التي يمتلكها للتأكيد على أن الأمن الوطني الأردني “خط أحمر”، وأن حدوده الشمالية مع سوريا ليست مستباحة لعصابات تهريب المخدرات والأسلحة، وهو ما سيدفع الجيش الأردني لإيصال رد حازم لهذه المليشيا الموالية لإيران بشن ضربات استباقية وقائية داخل الأراضي السورية في إطار الدفاع عن النفس، بجانب التصدي لأية محاولات لنقل الفوضى داخل أراضي الأردن، وسيقع ذلك بالتوازي مع تحركات عمّان على الصعيدين الإقليمي والدولي لمواجهة هذا التهديد الإيراني السوري.