رسالة تحدٍّ:
أبعاد الهجوم على القنصلية التركية في الموصل

رسالة تحدٍّ:

أبعاد الهجوم على القنصلية التركية في الموصل



بعد حوالي أسبوع على هجوم تركي على منتجع سياحي في محافظة دهوك بإقليم كردستان، استهدف هجوم صاروخي (27 يوليو الجاري) القنصلية التركية في الموصل، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها استهداف المصالح الدبلوماسية التركية في العراق، وهو ما يطرح دلالات عديدة خاصة فيما يتعلق بتوقيت الهجوم، الذي يأتي وسط حالة من التوتر بين أنقرة وبغداد، بعد اتهام الثانية للأولى بتدبير هجوم على منتجع سياحي بمحافظة دهوك شمال العراق، وهو ما نفته أنقرة، وألقت بالمسؤولية على حزب العمال الكردستاني، الذي اتهمته تركيا بالسعي لتبني طرق لا أخلاقية للتأثير على التطور الإيجابي اللافت في العلاقة بين العراق وتركيا.

توقيت لافت

جاء الهجوم على القنصلية التركية في مدينة الموصل العراقية، في توقيت لافت، حيث تزامن مع انعقاد جلسة لمجلس الأمن الدولي بطلب من العراق لبحث الهجوم الإرهابي على منتجع زاخو الجبلي. كما توازى الهجوم مع قصف صاروخي مماثل استهدف قاعدة زليكان التركية، في بلدة بعشيقة شرقي الموصل، التي تضم عدداً من القوات التركية، وكانت جماعة تسمي نفسها “سرايا أبابيل”، قد أعلنت (26 يوليو الجاري) مسؤوليتها عن استهداف القاعدة التركية بطائرة مسيّرة، على نحو يشير إلى أن بعض الفصائل العراقية المناهضة للوجود التركي تحاول توجيه رسالة تحدٍ للجيش التركي ولحكومة حزب العدالة والتنمية تفيد بقدراتها على إزعاج الوجود والنفوذ التركي داخل الأراضي العراقية رغم كل الإجراءات الأمنية والقواعد العسكرية التي تقيمها أنقرة داخل شمال العراق.

على صعيد ذي شأن، جاء الهجوم على قنصلية أنقرة في الموصل، وقاعدتها العسكرية في بعشيقة، مع تصاعد انتقادات النخب العراقية للوجود العسكري التركي في شمال العراق. فعلى سبيل المثال، ندد وزير الخارجية العراقي (28 يوليو الجاري) بالتواجد غير الشرعي للقوات العسكرية التركية في الأراضي العراقية، كما شجب قرار البرلمان التركي الذي اتخذه في أكتوبر الماضي لتمديد وجود قوات بلاده في العراق لمدة سنتين، وهو ما اضطر معه وزارة الدفاع التركي للتهديد بأنها “ستحاسب عاجلاً أم آجلاً” منفذي الهجوم على القنصلية التركية في الموصل، وقاعدة زليكان في بعشيقة، كما طالبت السلطات العراقية بمحاسبة المسؤولين عن الهجوم الذي وصفته بـ”الدنيء”، على نحو يكشف عن حجم التأثير الذي فرضه الهجوم الأخير الذي ربما يدفع إلى استمرار حالة التوتر بين بغداد وأنقرة.

دلالات عديدة

يطرح الهجوم الأخير على القنصلية التركية في الموصل، وقاعدتها العسكرية في بعشيقة، عدة دلالات، يمكن بيانها على النحو التالي:

1- الرد على هجوم زاخو في كردستان: جاء الهجوم على القنصلية التركية في الموصل بعد نحو أسبوع من استهداف منتجع زاخو السياحي في منطقة كردستان العراق، الذي مثّل ضربة قوية للسيادة العراقية، إذ فرض تأثيرات مباشرة على المناخ السياسي الملتهب في البلاد، وهو ما دفع قوى سياسية عراقية مختلفة إلى توجيه إدانة حادة لتركيا، والدعوة إلى ضرورة تبني خطط للرد على استمرار التوغل العسكري التركي داخل الأراضي العراقية، ومنها القوى الشيعية الموالية لإيران، التي تسعى لإثبات قدراتها على أنها الأجدر بحماية الأمن القومي العراقي.

2- إزعاج الوجود التركي في بعشيقة: تكشف الهجمات على قنصلية أنقرة في الموصل، وقاعدتها العسكرية في منطقة بعشيقة، عن أن التيارات العراقية المناهضة لتركيا لديها العديد من القدرات والأدوات لإزعاج الوجود التركي، حيث تم استخدام الطائرات المسيرة في استهداف قاعدة زليكان، بينما تم الاعتماد على الصواريخ الموجهة عن بعد في ضرب القنصلية التركية بالموصل. واللافت في هذا السياق، أن الأجهزة السياسية والأمنية في العراق لم تُبدِ أسفاً أو دافعاً بشأن هذه الهجمات، وهو ما يرجح فرضية أن تكون حكومة بغداد، ومن خلفها سلطة إقليم كردستان، تسعيان من وراء ستار إلى محاصرة النفوذ التركي، أو على الأقل ضبط هذا الوجود على الأراضي العراقية، لكن من دون الدخول في صدام مباشر مع تركيا التي ترتبط معهما بمصالح اقتصادية ونفطية كبيرة.

3- تأكيد استمرار التصعيد بين بغداد وأنقرة: تعكس الهجمات على قنصلية أنقرة في الموصل وقاعدتها في بعشيقة، وقبلها هجوم زاخو؛ استمرار تناقض مواقف بغداد وأنقرة حول عدد من القضايا الخلافية، في الصدارة منها استمرار رفض حكومة الكاظمي إصرار تركيا على عسكرة الأزمة شمال العراق، إذ تعتبرها انتهاكاً للسيادة العراقية. كما أن تنامي التوتر بينم البلدين لا ينفصل كذلك عن تفاقم ملف المياه، الذي يشكل مصدر توتّر بين تركيا والعراق، خاصة بعد اتهام الثانية للأولى بمواصلة بناء السدود على نهري دجلة والفرات من دون مراعاة لحقوق وحصة العراق المائية التي تأتي من النهرين.

4- وضع أنقرة حسابات طهران في الاعتبار: لا تبدي إيران دعماً واضحاً للإجراءات العسكرية التركية المتزايدة شمال العراق، خاصة فيما يتعلق بالتوسع في بناء القواعد العسكرية، وتوظيف الاتفاق الأمني الموقّع مع العراق في عام 2007 لتعزيز حضورها داخل الأراضي العراقية. ومن هنا، فإن طهران ربما سعت عبر الأجنحة الشيعية الموالية لها إلى إرباك حسابات تركيا خلال المرحلة القادمة في الداخل العراقي الذي لا يزال يعاني حالة من السيولة السياسية.

5- توظيف الهجوم ضد حزب العمال الكردستاني: تشير قراءة رد فعل أنقرة على الهجوم الذي استهدف قنصليتها في الموصل وقاعدتها في بعشيقة إلى أن تركيا تعاطت بحذر مع حكومة بغداد، حيث طالبت السلطات العراقية بمحاسبة المسؤولين عن الهجوم، كما دعا وزير الخارجية التركي (27 يوليو الجاري) إلى ضرورة حماية العراق للممثليات الدبلوماسية وفقاً لاتفاقية فيينا.

لكن في المقابل، أكدت الخارجية التركية في بيانها عشية استهداف قنصليتها على أهمية التعاون مع السلطات العراقية في مكافحة التنظيمات الإرهابية، حيث اتهمت بشكل مباشر حزب العمال الكردستاني باستهداف مصالحها الدبلوماسية والأمنية في العراق، كما اعتبرت في بيانها أن تنظيم حزب العمال الكردستاني يشكل تهديداً لدول الجوار والبعثات الدبلوماسية. ومن جهتها، قالت وزارة الدفاع التركية في بيان لها (27 يوليو الجاري): “سنهدم أفخاخ الإرهابيين على رؤوسهم، وسندفنهم في الخنادق التي حفروها مع أحلامهم بإغراق المنطقة بالدماء”، معتبرة أن هذا الهجوم “أظهر مجدداً مَن الذي يستهدف المدنيين”، وعبرت وزارة الدفاع التركية عن انفتاحها على التعاون مع الجانب العراقي في الحرب على الإرهاب وضمان أمن الحدود.

خلف ما سبق، سعت أنقرة لاستثمار هجوم القنصلية وقاعدة زليكان داخلياً ضد التيار الكردي في تركيا، خاصة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي في منتصف العام المقبل، ويخشى الرئيس التركي وحزبه من التطور الحادث في شعبية حزب الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) في الداخل التركي، حيث حقق أكراد تركيا حضوراً سياسياً لافتاً في الشارع التركي على حساب الحزب الحاكم الذي يتعرض لضغوط شعبية بسبب تفاقم الأوضاع المعيشية وتراجع مؤشرات الاقتصاد.

ارتباطات مصلحية

ختاماً، يمكن القول إن ما سبق -في مجمله- يُشير إلى أن حالة التوتر قد تكون العنوان الأبرز في العلاقات التركية العراقية خلال المرحلة المقبلة، وذلك في ضوء محاولات أنقرة تعزيز تمددها في الداخل العراقي، ومعارضة تيارات عراقية مدعومة من قوى إقليمية -وبخاصة طهران- لهذا الوجود. غير أن الارتباطات المصلحية بين البلدين قد تحول دون وصول العلاقة إلى حد القطيعة، حيث ترتبط أنقرة وبغداد بتبادلات تجارية تقترب من 9 مليارات دولار، ناهيك عن اعتماد إقليم كردستان العراق على ميناء جيهن التركي في تصدير منتجاته البترولية للخارج.