سعت إيران عبر الضربات العسكرية التي شنتها داخل ثلاث دول هي العراق وسوريا وباكستان إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في توجيه تحذيرات مباشرة إلى إسرائيل، وممارسة ضغوط قوية على الولايات المتحدة الأمريكية، واستقطاب دعم الرأي العام الداخلي، ودفع حركة طالبان إلى كبح أية محاولة من جانب داعش لتنفيذ عمليات داخل إيران.
قامت إيران بشن هجمات داخل كل من العراق وسوريا وباكستان، يومي 15 و16 يناير الجاري، استخدمت فيها الطائرات من دون طيار والصواريخ الباليستية التي وصل عددها إلى 24 صاروخاً من طرازي “خيبر شكن” و”فاتح 110″، حيث استهدفت، حسب البيانات التي أصدرها الحرس الثوري، مقراً لجهاز الموساد الإسرائيلي في أربيل بشمال العراق، وتجمعات للمنظمات الكردية الإيرانية المعارضة، فضلاً عن مواقع لـ”داعش” و”هيئة تحرير الشام” و”الحزب التركستاني” في إدلب بسوريا، ومواقع لجماعة “جيش العدل” الإيرانية في بلوشستان الباكستانية.
أهداف عديدة
رغم أن هذه الهجمات لا تعبر عن نهج جديد تتبناه إيران، حيث سبق أن وجهت ضربات عسكرية لكل من أربيل في شمال العراق، في عامي 2022 و2023، ودير الزور في سوريا، في عام 2017؛ إلا أن توقيت الهجمات الأخيرة يكتسب أهمية وزخماً خاصاً، كونها تأتي في وقت تتصاعد فيه حدة التوترات على المستوى الإقليمي، في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وتصاعد التوتر في البحر الأحمر بين القوات الأمريكية والبريطانية من جهة ومليشيا الحوثيين من جهة أخرى، فضلاً عن التصعيد المحسوب بين إسرائيل وحزب الله، والمواجهات المستمرة بين القوات الأمريكية في العراق وسوريا والمليشيات الشيعية الموالية لإيران.
من هنا، يمكن القول إن إيران سعت عبر هذه الضربات إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:
1- توجيه رسائل تحذير إلى تل أبيب: كان لافتاً أن إيران استخدمت في تلك الضربات كلاً من الصواريخ الباليستية والطائرات من دون طيار، على نحو سعت من خلاله إلى توجيه رسائل تحذير لإسرائيل مفادها أنها تمتلك من القدرات العسكرية ما يمكن أن يطال مصالح إسرائيلية مؤثرة، وذلك لمنع إسرائيل من التفكير في الإقدام على توجيه ضربات أكثر قوة لإيران، سواء في الداخل عبر العمليات التي يقوم بها الموساد ويستهدف من خلالها المنشآت النووية والعسكرية فضلاً عن العلماء النوويين، أو في الخارج من خلال الضربات التي توجهها لقيادات في الحرس الثوري وبعض كوادر المليشيات الموالية، على غرار القيادي في الحرس الثوري رضى موسوي الذي قُتل في 25 ديسمبر الفائت، وصالح العاروري نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الذي قتل في 2 يناير الجاري، وحسين يزبك القيادي في حزب الله الذي اغتيل في 4 من الشهر نفسه.
2– لفت اهتمام الرأي العام لمخاطر “الوجود الإسرائيلي” القريب: زعم الحرس الثوري في بياناته أنه تم توجيه ضربة قوية لمقر جهاز الموساد الإسرائيلي في أربيل بشمال العراق، وهي المرة الثانية التي يروّج فيها الحرس الثوري لذلك، بعد أن هاجم المنطقة نفسها في 13 مارس 2022. وهنا، فإن الهدف هو توجيه اهتمام الرأي العام الإيراني لوجود خطر إسرائيلي بالقرب من الحدود يستدعي إقدام إيران على تعزيز نفوذها في المنطقة، ولا سيما في دول الجوار.
وهنا، فإن تعمد الترويج لهذه السردية يهدف إلى تقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها النظام الإيراني، بسبب الانتقادات التي توجهها أطراف عديدة في الداخل للسياسة الخارجية التي يتبعها النظام، والتي تقوم على أن الأخير يستنزف الموارد الإيرانية في الإنفاق على دعم حلفائه في الخارج، والانخراط في أزمات تفرض تداعيات سلبية على إيران، التي تتعرض لعقوبات أمريكية قوية بعد انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018.
وقد كان لافتاً أن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين حاول التلميح إلى هذه المقاربة الإيرانية في حواره مع صحيفة “الشرق الأوسط”، في 17 يناير الجاري، خلال مشاركته في جلسات منتدى دافوس، حيث قال إنه لا يوجد مقر لجهاز الموساد في شمال العراق، مشيراً إلى أن إيران تحاول تصدير مشكلاتها الداخلية إلى الخارج.
وهنا، ربما يمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أن النظام الإيراني قد تكون لديه رغبة حالياً في إثارة أزمة خارجية، من أجل استقطاب دعم المواطنين والشارع الإيراني بشكل عام لسياساته، خاصة مع اقتراب موعد إجراء انتخابات مجلسي الشورى الإسلامي (البرلمان) ومجلس خبراء القيادة، بالتزامن، في أول مارس القادم.
إذ يخشى النظام الإيراني من أن يؤدي تفاقم الأزمة الاقتصادية، فضلاً عن القيود الاجتماعية المتشددة التي تتبناها السلطات، إلى تراجع مستوى المشاركة الشعبية في الانتخابات، على نحو دفع المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي إلى وصف تلك المشاركة بأنها “واجب ديني”، مشيراً إلى أن “العزوف عن المشاركة يخدم أهداف الأعداء”.
3- الاقتراب من مصالح أمريكية حيوية في الإقليم: تعمدت إيران أن توجه ضربات صاروخية بالقرب من القنصلية الأمريكية في أربيل. ورغم أن القنصلية لم تتعرض لإصابات مباشرة جراء تلك الضربات، إلا أن الرسالة كانت واضحة وموجهة مباشرة إلى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بأن إيران تستطيع أيضاً الوصول إلى مصالح أمريكية حيوية في المناطق المحيطة بها.
وهنا، فإن إيران تسعى إلى ممارسة ضغوط على الإدارة الأمريكية لاعتبارات رئيسية ثلاثة: أولها، إقدام الولايات المتحدة الأمريكية، بالتعاون مع بريطانيا وبدعم من جانب دول عديدة بالمنطقة، على شن ضربات عسكرية ضد المواقع التابعة لمليشيا الحوثيين في اليمن، بداية من 12 يناير الجاري، رداً على الهجمات التي تشنها المليشيا وتهدد من خلالها حركة التجارة العالمية في باب المندب والبحر الأحمر، وذلك بالتوازي مع توارد أنباء عن احتمال إدراج المليشيا على قائمة التنظيمات الإرهابية مجدداً.
وثانيها، استمرار الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، على المستويين السياسي والعسكري، والذي كان، وفقاً لرؤية طهران، أحد أسباب إطالة أمد الحرب الحالية التي تشنها الأخيرة داخل قطاع غزة، على نحو عرّض إيران وحلفاءها لضغوط قوية من أجل التدخل، وحفز إسرائيل على توجيه ضربات ضد قيادات إيرانية وكوادر مليشياوية قريبة منها.
وثالثها، تصاعد حدة الخلافات حول الملف النووي بعد تعثّر المفاوضات التي أجريت بين طهران وواشنطن في منتصف أغسطس 2022، وتزايد التهديدات الأمريكية باتخاذ خطوات عقابية أكثر قوة للرد على تعمد إيران مواصلة أنشطتها النووية بوتيرة باتت تثير قلقاً واضحاً من جانب الدول الغربية، بالتوازي مع تعزيز الوجود العسكري الأمريكي بالقرب من حدود إيران.
4- ممارسة ضغوط على حركة “طالبان”: رغم أن إيران تعمدت توجيه ضربات عسكرية لمواقع جماعة “جيش العدل” في باكستان، إلا أن ذلك قد يهدف، في قسم منه، إلى توجيه تحذيرات، أو بمعنى أدق ممارسة ضغوط على حركة “طالبان” من أجل كبح أي تحرك من جانب تنظيم “داعش” لمحاولة اختراق الحدود الأفغانية-الإيرانية وتنفيذ عمليات إرهابية داخل إيران، على غرار العملية التي أعلن مسؤوليته عنها في 3 يناير الجاري، واستهدف فيها الجموع التي شاركت في الاحتفال بحلول ذكرى مقتل القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني في مدينة كرمان.
تصعيد متواصل
في ضوء ذلك، يمكن القول إن هذه الضربات التي شنتها إيران داخل كل من العراق وسوريا وباكستان تشير إلى أن التصعيد سوف يبقى عنواناً رئيسياً للتفاعلات التي تنخرط فيها إيران على المستويين الداخلي والخارجي، خاصة أنها لم تعد تفصل كثيراً بين الأزمات التي تتفاقم حدتها في الداخل، وبين الضغوط التي تواجهها في الخارج، في ظل المقاربة التي تتبناها باستمرار، والتي لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، وتعتمد على أن هناك “مخططاً خارجياً لتقويض دعائم النظام الإيراني بمشاركة قوى داخلية”.