أثر النفاذية:
أبعاد الموجة الحالية من الانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا وحدود تأثيرتها على المنطقة العربية

أثر النفاذية:

أبعاد الموجة الحالية من الانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا وحدود تأثيرتها على المنطقة العربية



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 27 سبتمبر 2023، جلسة استماع بعنوان “أثر النفاذية: أبعاد الموجة الحالية من الانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا وحدود تأثيراتها على المنطقة العربية”، واستضاف المركز السفير هشام ماهر، سفير مصر الأسبق في السنغال (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ كرم سعيد، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ حسين معلوم، والدكتور هيثم عمران، والأستاذ محمد عمر، والأستاذة نادين المهدي.

أسباب مركّبة

اعتبر “ماهر” أنّ موجة الانقلابات الحالية هي الثالثة في القارة الأفريقية، إذ كانت الأولى إبان التحرر من الاستعمار في ستينيات القرن المنصرم، والثانية بعد انتهاء الحرب الباردة، بفعل تغير التوازنات والتحالفات الدولية، وخاصة منطقة غرب أفريقيا التي شهدت أعلى معدلات الانقلابات في القارة. ويمكن تقسيم أسباب الانقلابات إلى داخلية، وأخرى خارجية، كالتالي:

1- الأسباب الداخلية:

أ- ضعف وهشاشة هياكل الدولة الوطنية: تعاني دول غرب أفريقيا، منديمقراطية هشة وغير مترسخة، وإن كان هناك انتخابات دورية بالفعل، ولكن لا يوجد قضاء ولا حريات مدنية، ولا وعي سياسي لدى شعوب تلك الدول، وبالتالي لم يكن لتلك الأنظمة القدرة على الاستمرار.

ب- فقدان الثقة في البرلمانات: فقدت شعوب دول غرب أفريقيا الثقة في البرلمانات، التي لم تعد تعبر عنها وعن أزماتها، وزاد عدم الرضى الشعبي وبالتالي الاستعداد لتقبل الانقلابات على المستوى الشعبي.

ج- تفشي الفساد الداخلي: تعاني تلك الدول من أزمة تفشي الفساد، إضافةً إلى العجز عن إدارة الخلافات السكانية والعرقية، إذ إن تلك المنطقة تسكنها قبائل وإثنيات وعرقيات، تحدث بينهم بعض توترات وحساسيات، ولكن الدولة القوية تقدر فرض الانضباط، وهو ما لا يحدث.

د- الأوضاع الاقتصادية الهشة: المنطقة من أفقر مناطق دول العالم، على الرغم من الموارد الطبيعية الكثيرة، ولكن هناك إساءة في إدارتها، وبالتالي أصبحت تلك الثروات نقمة وليست نعمة.

ه- تأثير الخصائص الديموغرافية: وفقاً للتركيبة السكانية في تلك المنطقة، فإن الشباب يمثلون نحو60%، وبالتالي يرغبون في حياة أفضل، وتلك المنطقة من أكثر مناطق العالم نمواً من حيث عدد السكان، ومن أكثر مناطق العالم تنقلاً في السكان، وهذا يثير المشكلات وعدم الاستقرار، في ظل صراع على الموارد بين العرقيات المختلفة، وهو ما يزيد من التوترات الداخلية.

و- الأوضاع الأمنية المضطربة: أسفر انتشار الجماعات الإرهابية ضغطاً على الأوضاع الاقتصادية في المنطقة كلها، واستهداف السكان المدنيين، وهو ما أوجد مظهراً من مظاهر السخط الشعبي.

ز- طموح بعض القيادات العسكرية: كما أن تلك الدول تواجه أزمة طُموح بعض القيادات العسكرية في إدارة الدولة، أو التحرك لتنفيذ الانقلابات خوفاً على مناصبهم، حال الإطاحة بهم.

2- الأسباب الخارجية:

أ- تصاعد الاهتمام الدولي بغرب أفريقيا: بدأت بعض الدول في إبداء الاهتمام بالمنطقة، مثل الصين وروسيا وأمريكا وإيران وتركيا، ولديهم جميعاً مصالح في تلك المنطقة، لكل منهم مشروعات، وهو ما أحدث تعدداً للاستراتيجيات في تلك المنطقة، فالاستراتيجية الروسية خشنة، عن طريق مجموعة فاغنر، وتساعد في تأمين بعض الأنظمة، كما أن روسيا ترغب في إيجاد منافذ على بعض الموانئ المهمة في هذا الإقليم.

في المقابل، فإن الاستراتيجية الأمريكية تطبق التعاون الاقتصادي والأمني معاً لتأمين حصولها على الموارد المهمة، ومحاربة الإرهاب، ومنع وصوله إلى الدول الغربية.

ب- تراجع النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية: وبدا أن ثمة تراجعاً في النفوذ الفرنسي، إذ بات استمرار الاستراتيجية نفسها مصدر انتقاد كبير من المواطنين في تلك الدول، وهو ما استغلته بعض الدول الأخرى لصالحها، من خلال شعارات معادية لفرنسا، ورفع شعارات تأييد لروسيا.

ج – عدم فاعلية الترتيبات الإقليمية: رغم أن منظمة “إيكواس” لتجمع دول غرب أفريقيا حققت بعض النجاحات في ربط دول الإقليم بمصالح مشتركة، ولكن توجه لها انتقادات، بأنها تعاملت مع المشكلات، في إطار رد الفعل، ولم تَسْعَ إلى إيجاد حلول للمشكلات، وبالتالي التأثير على مصداقيتها.

د- بؤرة جديدة للصراع الدولي: اللافت أن منطقة غرب أفريقيا باتت بؤرة للصراع الدولي، وانضمت إلى دوائر الصراع في الشرق الأوسط، والحرب الروسية الأوكرانية.

تراجع فرنسي

تطرق “ماهر” إلى أنه منذ عام 1990، فإن 78% من الانقلابات العسكرية في أفريقيا حدثت في دول المستعمرات الفرنسية السابقة، وهو أمر يحتاج إلى دراسة. ولكن بشكل عام، فإن السياسات الفرنسية تعد مندفعة، بما دفع بعض الدول الغربية، مثل الولايات المتحدة، إلى البُعد في سياساتها مع فرنسا، التي تمارس سياسة أبوية على دول غرب أفريقيا، في ضوء استراتيجية تبرز ملامحها في التالي:

1- نشر القواعد العسكرية: مع تعدد ظهور الجماعات المتطرفة في المنطقة، فقد زاد من عدم الاستقرار وواجهته فرنسا بالدفع بقوات عسكرية بدعم أمريكا ودول أوروبية، وتم التعامل بالاستراتيجية نفسها التي تم التعامل بها في العراق وسوريا، واستغلال هذا التدخل في زيادة النفوذ بالإقليم.

ولجأت فرنسا إلى نشر قواعد عسكرية في الدول الأفريقية، في حين أن التواجد العسكري بات نظرة قديمة، ولم يعد مقبولاً، وتم اعتباره نوعاً من الاستعمار الجديد، ولم تتعامل مع الجذور وحل الأزمات بشكل عميق للقضاء على تلك الظاهرة.

2- استغلال الموارد الطبيعية: ظهر للمواطن الأفريقي أن السياسات الفرنسية تحاول الاستفادة من الموارد، وفي المقابل لا تتمكن من تقديم المساعدة التي كان ينتظرها من دولة قوية.

3- تدهور الأوضاع الاقتصادية: ألقت الشعوب الأفريقية بجزء من اللوم في تدهور الأوضاع الاقتصادية على الاستعمار الفرنسي، لعدم تقديم مساعدات لهذه الدول للخروج من الأزمات الاقتصادية، في ظل الهيمنة الاقتصادية الفرنسية، من خلال الفرانك الأفريقي، وأداة سيطرة مالية غير طبيعية، فنصف احتياطيات الدول الأفريقية تقريباً في بنوك فرنسا، ولا يوجد تحويل بنكي للدول الأفريقية إلا عبر البنوك الفرنسية، وبالتالي السيطرة على الاقتصاديات والماليات.

كما أن مساعدات التنمية ينظر إليها على أنها إيجابية، ولكن جاءت بنتائج عكسية، مع تنامي الشعور بأنها موجهة لصالح الأنظمة وليس للمواطنين، وليست هناك شفافية في توزيعها.

4- تفاقم مشكلة الهجرة إلى أوروبا: في ضوء الطريقة التي كانت تتعامل بها فرنسا مع المهاجرين، أصبحت فرنسا مصدر ألم كبير، مع المعاناة التي يعيشها أي مهاجر لكي يصل إلى فرنسا.

5- ارتفاع الوعي لدى شعوب أفريقيا: ساهم تدفق المعلومات في إدراك الجميع ما يحدث في كل واقعة، وهو ما أثّر على صورة فرنسا. ووفقاً لوثائق باندورا، بات المواطن في تلك الدول يدرك أن النخبة فاسدة، وتسترضي فرنسا لتحقيق مصالحها، وليس لتحقيق مصالحه.

ظواهر جديدة

يُشير “ماهر” إلى بعض الظواهر الجديدة التي تظهر مع موجة الانقلابات الجديدة التي تشهدها الدول الأفريقية خلال الفترة الحالية، وأبرزها:

1- تزايد الخبرات للتعامل مع الضغوط الغربية: مع وقوع انقلابات، تتأصل الثقافة السياسية، فأصبح يتم تنفيذ الانقلابات بشكل فعال، إذ بات قادة تلك الانقلابات يتعاملون بذكاء داخلياً لكسب الشرعية، وخارجياً لمواجهة الضغوط الخارجية، وخاصة الغربية، وباتت هناك خبرات لدى قادة الانقلابات.

2- عقد اجتماعي جديد بين المجتمع والمؤسسة العسكرية: بدأ مفهوم جديد للحكم السياسي، بإرساء شكل من أشكال العقد الاجتماعي، بين الشعب والمؤسسة العسكرية، المواطنون وجدوا النخبة لا تحقق طموحاتهم، ووجدوا أن المؤسسة العسكرية يمكن أن تخلصهم من تلك النخبة، على أمل أن يكون هناك تحسن في الأوضاع المعيشية.

3- بروز الاستقطاب الإقليمي: فور الانقلاب في النيجر، اجتمعت منظمة الإيكواس، وقالت إننا ننظر في التدخل العسكري في النيجر. في المقابل، أعلن قادة الانقلاب في بوركينا ومالي وغينيا، تشكيل ائتلاف، وأعلنوا أن أي اعتداء على النيجر هو اعتداء على دولهم، وهذا أحدث حالة من الانقسام داخل منظمة الإيكواس، وبدوره أدى إلى ارتفاع الأصوات لتشكيل تجمع إقليمي جديد بديل لها.

4- غياب التنسيق بين المنظمات الإقليمية: فرضت منظمة “الإيكواس” عقوبات اقتصادية على مالي، ولكن أصدرت محكمة الاتحاد الاقتصادي لدول غرب أفريقيا حكماً بإلغاء تلك العقوبات، وهو ما يهز من صورة المنظمة ومصداقيتها، وباتت هناك نظرة متصاعدة تتعلق بفشل دبلوماسي لـ”الإيكواس” لحل الأزمات، وتطبيق عقوبات اقتصادية.

5- توافق روسي أفريقي على تعزيز التعددية القطبية في النظام الدولي: يتضح ذلك من خلال القمة الأخيرة لروسيا وأفريقيا، التي اتجهت إلى تأييد التعدد الدولي ومحاربة الاستعمار، وذلك يقوي من مركز روسيا كحليف للدول الأفريقية.

تأثيرات ممتدة

يؤكد “ماهر” أن منطقة شمال أفريقيا ومنطقة وسط أفريقيا، تبادلوا التأثيرات بعد سقوط القذافي، وانتشار الأسلحة، وحصول التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة على السلاح، وأدى إلى عدم استقرار كبير في المنطقة، إذ إن إقليم الساحل والصحراء هو الفاصل بين شمال القارة وجنوبها. وتمثل دول الساحل والصحراء منطقة دمج بين شمال وجنوب القارة، في ظل وجود نسبة من السكان مسلمين، وقبائل من أصول عربية، وهناك متحدثون بالعربية، ولذلك تهتم الدول العربية بأمن واستقرار منطقة غرب أفريقيا، في ضوء تعدد المصالح المختلفة في ذلك الإقليم في القارة الأفريقية، وأبرزها:

1- ارتدادات أمنية واسعة: في ضوء الطبيعة الجغرافية لمنطقة غرب أفريقيا، فإنها صحراء، وبالتالي الانتقال فيها سهل، والقدرات الأمنية لتلك الدول ضعيفة، بما يسمح بحرية الانتقال، ويمكن أن يصل السلاح والإرهاب إلى بعض الدول العربية، حتى غير القريبة من إقليم غرب أفريقيا، كما الحال في مصر، التي بالتأكيد تتابع الوضع.

وتدفع مصر بالتنمية الاقتصادية لتلك المنطقة، لمنع تجنيد الشباب في التنظيمات الإرهابية، من أجل الحصول على المال، ولو وجد الفرد البديل الآمن فلن تكون هناك تدفقات على التنظيمات الإرهابية.

2- تداعيات مباشرة لدول الجوار: على سبيل المثال فإن الجزائر دولة جوار لمنطقة غرب أفريقيا، ومصلحتها أن يكون هناك استقرار وأمن، على الرغم من إدانة الانقلابات، ولكن لا يمكن أن تتخذ موقفاً تصادمياً في ظل امتلاك موارد بترولية في الجنوب، وتهتم بسيادة الأمن في تلك المنطقة، وسبق أن نفذ تنظيم القاعدة عمليات في الجزائر.

كما يظهر في الأفق تعاون روسي جزائري، الجزائر ترفض التدخل الدولي في هذا الإقليم، وبالطبع ترفض أي عمل عسكري، خاصة مع المعاناة من ملف الهجرة غير الشرعية، بعدما أصبحت معبراً لنحو 10 آلاف في العام للمهاجرين غير الشرعيين.

كما أن موريتنانيا دولة جوار، وتولي أهمية أكبر للعلاقات مع دول غرب أفريقيا، بفعل التجارة غير الرسمية بين المواطنين، وكانت عضواً في الإيكواس قبل الانسحاب، وتراجع هذا الموقف الآن.

3- امتداد التأثيرات خارج القارة الأفريقية: الدول العربية الأخرى خارج القارة الأفريقية، مثل دول الخليج، تهتم بالوضع في غرب أفريقيا، خاصة بعد أن أصبح لها بعض الاستثمارات في تلك المنطقة، وتدفع إلى الحفاظ على مصالحها هناك.

كما أن لبنان تهتم بالوضع، إذ إنها تمتلك جالية كبيرة في ذلك الإقليم، وبالتالي تهتم بأمن الجالية المنتشرة في تلك الدول، للحرص على استمرار تدفقات الأموال والتحويلات منهم.

أزمات محتملة

يرى سفير مصر الأسبق في السنغال، أن الدول الغربية لم تكن لديها أزمة في الانقلاب العسكري في الجابون، بسبب استمرار عائلة واحدة في حكم البلاد لمدة 35 عاماً، مقابل الرئيس المنتخب محمد بازوم في النيجر. وبشكل عام، فإن النفوذ الفرنسي المتراجع في أفريقيا، يستدعي أن تراجع سياساتها، وتبني سياسات بديلة، إذا أرادت الحفاظ على ما تبقى من النفوذ.

ولم يستبعد أن تشهد دول أخرى انقلابات عسكرية خلال الفترة المقبلة، في ضوء عدد من الأزمات الداخلية، مثل الكاميرون، مع تزايد الفساد، وتصاعد الغضب الشعبي الداخلي، كما أن الكونغو قد تواجه المصير نفسه، نظراً للأوضاع الاقتصادية المتردية، والصراعات الإثنية الداخلية.