رغم حرص إيران على مواصلة التنسيق مع روسيا حول التطورات التي تشهدها العديد من الملفات الإقليمية والدولية التي تحظى باهتمام مشترك من الجانبين، إلا أن ذلك لا ينفي أن تحذيرات عديدة بدأت تظهر على الساحة الداخلية الإيرانية من العواقب المحتملة التي يمكن أن يفرضها الموقف الروسي من التطورات الميدانية في قطاع غزة، بعد تصاعد حدة العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل ضد حركة حماس، على خلفية العملية التي شنتها الأخيرة باسم “طوفان الأقصى” داخل الأراضي الإسرائيلية في 7 أكتوبر الفائت.
هذه التحذيرات التي تطلقها اتجاهات إيرانية عديدة من التداعيات السلبية التي يمكن أن ينتجها الرهان على الدور الذي تقوم به روسيا على الساحتين الدولية والإقليمية قد لا تكون جديدة، إلا أنها بدت لافتة في الوقت الحالي، بسبب التماهي الملحوظ -إلى حد ما- في الموقفين الروسي والإيراني إزاء ما يجري داخل قطاع غزة، خاصة بعد الانتقادات التي وجهتها روسيا إلى إسرائيل، فضلاً عن سعيها لاستصدار قرارين من مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار، إلى جانب استضافتها وفداً من حركة حماس برئاسة عضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق، في 26 أكتوبر الفائت، والذي دفع إسرائيل إلى استدعاء السفير الروسي لديها للاحتجاج، وتوجيه انتقادات شديدة إلى السياسة التي تتبناها روسيا إزاء التطورات التي طرأت على صعيد المواجهة بين إسرائيل وحماس منذ السابع من الشهر نفسه.
وقد انعكست هذه التحذيرات الإيرانية في الحوار الذي أجرته صحيفة “ستاره صبح” مع السفير الإيراني السابق لدى موسكو، نعمت الله ايزدي، في 30 أكتوبر الفائت، الذي قال إن “روسيا تستغل الحرب في قطاع غزة لتعزيز مصالحها وحساباتها رغم أنه لا يوجد ما يؤشر إلى أن لها دوراً فيما قامت به حماس في 7 أكتوبر الفائت”. في حين نشرت صحيفة “هم ميهن” تقريراً، في أول نوفمبر الجاري، بعنوان “لعبة روسيا في ساحة المعركة في غزة”، جاء فيه أن روسيا هي المستفيد الأول من الحرب التي تدور رحاها في الوقت الحالي داخل قطاع غزة. وقد توازى ذلك مع تأكيد بعض وسائل الإعلام الأخرى، مثل وكالة أنباء “مهر”، على أهمية توسيع نطاق التنسيق على المستويات المختلفة مع روسيا، خاصة بعد اندلاع الحرب في غزة، وكان ذلك مرتبطاً، في قسم منه، بالزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية للشئون السياسية علي باقري كني إلى موسكو، في 27 أكتوبر الفائت.
دوافع عديدة
يمكن تفسير تزايد الجدل حول الموقف الروسي من الحرب في قطاع غزة في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- صرف الانتباه عن الحرب في أوكرانيا: ترى أغلب التقديرات في طهران أن روسيا استفادت إلى حد كبير من اندلاع الحرب في غزة، حيث إنها فرضت تداعيات عديدة على المستويين الدولي والإقليمي، جاء في مقدمتها صرف الانتباه عن استمرار الحرب في أوكرانيا، التي اندلعت في 24 فبراير 2022، وما زالت مستمرة حتى الآن، وتعرضت روسيا بسببها لضغوط وعقوبات غربية قوية، من أجل دفعها إلى وقف عملياتها العسكرية داخل أوكرانيا.
ووفقاً لذلك، فإن العملية العسكرية التي شنتها حركة حماس داخل إسرائيل في 7 أكتوبر الفائت وما تلاها من تصعيد عسكري إسرائيلي داخل قطاع غزة كان له دور أساسي في تقليص حدة الضغوط التي فُرضت على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، على نحو دفع الأولى إلى الانخراط بشكل مكثف في التفاعلات التي تجري على صعيد الحرب في غزة، سواء من خلال توجيه انتقادات شديدة إلى العمليات العسكرية التي تشنها إسرائيل، أو عبر محاولة حشد الدعم في مجلس الأمن لاستصدار قرارين بوقف إطلاق النار، رغم فشلها في ذلك، إلى جانب استضافة بعض قادة الحركة من أجل إجراء مباحثات في موسكو، وخاصة حول ملف الأسرى الروس المحتجزين لدى حماس.
وهنا، فإن التحذيرات التي برزت في إيران توحي بأن الاتجاهات التي أطلقتها تسعى إلى توجيه اهتمام دوائر صنع القرار إلى “عواقب” الاستمرار في خدمة المصالح الروسية، أو الرهان على الدور الروسي إزاء الأزمة حتى النهاية، حيث إن روسيا تدير الأزمة وفقاً لمصالحها بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتوافق مع مصالح إيران من عدمه.
2- توسيع نطاق الخلافات بين الدول الغربية وأوكرانيا: من شأن استمرار الحرب في غزة أن يساهم، وفقاً لرؤية موسكو، في توسيع نطاق الخلافات بين الدول الغربية وأوكرانيا، ولا سيما بعد أن اتجهت الأولى إلى المسارعة بتقديم دعمها لإسرائيل، على المستويين السياسي والعسكري، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي قررت تسليم إسرائيل معدات عسكرية جديدة وإرسال حاملتي طائرات أمريكية إلى شرق المتوسط لتكون قريبة من مسرح العمليات، وهو ما يعني أن الأولوية باتت لدعم إسرائيل وليس أوكرانيا، رغم استمرار العمليات العسكرية التي تشنها روسيا داخل الأخيرة.
3- احتفاظ موسكو بقنوات التواصل مع تل أبيب: رغم الاستياء الذي أبدته إسرائيل تجاه السياسة التي تبنتها روسيا إزاء الحرب في قطاع غزة، إلا أن الأخيرة لا يبدو أنها في وارد أن تتراجع عن الحفاظ على قنوات التواصل مع إسرائيل، وذلك لاعتبارين: أولهما، أن هذه القنوات تُؤمِّن استمرار التنسيق بين الطرفين في التعامل مع التطورات الميدانية داخل سوريا، خاصة فيما يتعلق بالضربات العسكرية التي تشنها إسرائيل ضد المواقع التابعة للنظام السوري وإيران والمليشيات الموالية لها، وهى ضربات ترى موسكو أنها يمكن أن تساهم في وضع حدود للنفوذ الإيراني على الأرض بشكل يتوافق مع مصالحها وحساباتها، على أساس أن هدفها الأساسي الحالي داخل سوريا يكمن في تعزيز موقعها باعتبارها القوة الرئيسية التي تمتلك القدرة على صياغة الترتيبات السياسية والأمنية داخل سوريا.
4- تراجع فرص الوصول إلى تسوية نووية: أدى اندلاع الحرب في قطاع غزة إلى تراجع فرص الوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي العالقة بين إيران والدول الغربية. فقد تزايد احتمال إبرام هذه التسوية في أعقاب توصل إيران والولايات المتحدة الأمريكية إلى صفقة لتبادل السجناء في 18 سبتمبر الماضي، إلا أن إقدام حركة حماس على شن عملية “طوفان الأقصى” وما تلاها من تصعيد إسرائيلي قوي، ووقوف طهران وواشنطن على طرفي نقيض في تلك الأزمة، لم يؤد فقط إلى تأجيل البت في مصير هذا الاتفاق، وإنما أيضاً إلى إضفاء شكوك في إمكانية مواصلة العمل به أو إجراء مفاوضات جديدة بشأنه في مرحلة لاحقة، وهو ما يتوافق مع حسابات روسيا أيضاً، التي سبق أن وجهت أطراف في إيران اتهامات لها بالمسئولية عن عرقلة الوصول إلى هذا الاتفاق في فترات ماضية، باعتبار أن روسيا لا تريد أن يساهم الوصول إلى صفقة نووية محتملة في تحسين العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
قراءة حذِرة
في ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران سوف تسعى في تعاملها مع تطورات الحرب في غزة إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها، عبر تجنب التعويل فقط على الدور الروسي، بالتوازي مع محاولة الحفاظ على قنوات التواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية، سواء عبر بعض الأطراف الوسيطة، أو من خلال الاتصالات المباشرة بين الطرفين، وهو ما يمكن أن يحدث في حالة ما إذا كان لإيران دور في إدارة ملف الأسرى المحتجزين لدى حماس والذين يحمل بعضهم الجنسية الأمريكية.