رؤية واشنطن:
أبعاد الجدل حول الهجمات ضد المصالح الأمريكية في المنطقة

رؤية واشنطن:

أبعاد الجدل حول الهجمات ضد المصالح الأمريكية في المنطقة



شهد العام الجاري زيادةً في وتيرة تعرض القواعد والمنشآت والمصالح الأمريكية في العراق وسوريا لهجمات صاروخية وبطائرات من دون طيار. فقد استُهدفت القوات الأمريكية (قاعدة عين الأسد الجوية وقاعدة أربيل الجوية) والدبلوماسيون في العراق بست هجمات مسلحة خلال أسبوع واحد في شهر يوليو الماضي. كما أعلنت القيادة المركزية الأمريكية، في ١٨ سبتمبر الجاري، أن هجوماً صاروخياً استهدف قاعدة “القرية الخضراء” التابعة للجيش الأمريكي شمال شرقي سوريا، وهى القاعدة نفسها التي استهدفت في ١٥ أغسطس الفائت، في أعمال عنف اندلعت بين الجيش الأمريكي ومسلحين مدعومين من إيران، إلى جانب قاعدة “التنف” على الحدود السورية مع العراق والأردن وموقع إسناد المهمة في قاعدة “كونيكو” الأمريكية.

مواقف مختلفة

على الرغم من عدم إعلان مليشيات محددة مسئوليتها عن عديد من تلك الهجمات المسلحة، إلا أن الإدارة الأمريكية تتهم المليشيات المرتبطة بإيران بتنفيذ الهجمات ضد القوات والمنشآت الأمريكية في سوريا والعراق، وهو ما أثار ردود فعل متعددة داخل الولايات المتحدة حول كيفية تعامل الرئيس جو بايدن معها، بجانب إثارتها جملة من القضايا الأخرى المتعلقة باستخدام القوة العسكرية الأمريكية في الرد على تلك الهجمات، والمكاسب التي تعود على واشنطن من استمرار التواجد العسكري في منطقة الشرق الأوسط. وتتمثل أبرز ردود الفعل الأمريكية فيما يلي:

١- ضغوط متزايدة لشن عمليات انتقامية: مع تعدد الهجمات ضد الأفراد والمنشآت العسكرية الأمريكية داخل العراق وسوريا، تتزايد الضغوط الداخلية على الإدارة الأمريكية للرد عليها. وتحت تلك الضغوط، أمر الرئيس جو بايدن، في ٢٣ أغسطس الفائت، القوات الأمريكية بتوجيه ضربة دقيقة ضد منشآت في سوريا تستخدمها مليشيات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني لدفعها إلى وقف الهجمات التي تستهدف المواطنين الأمريكيين والمنشآت الأمريكية، وكذلك حلفاء الولايات المتحدة وشركائها، أو اللوجستيات المتعلقة بها ومخازن الذخيرة.

وبالفعل قصف الجيش الأمريكي، في ٢٥ أغسطس الفائت، عدة أهداف في مناطق بمحافظة دير الزور، وهي مناطق خاضعة لسيطرة الحكومة السورية. وفي العام الماضي، أمر الرئيس بايدن مرتين في فبراير ويونيو بشن هجمات عسكرية ضد المليشيات المسئولة عن تنفيذ هجمات ضد الأمريكيين في سوريا. وقد توعد قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال مايكل كوريلا، في ٢٥ أغسطس الفائت، بالرد المناسب والملائم على عمليات استهداف الجنود الأمريكيين، مشدداً على أنه لا يمكن لأي مجموعة مهاجمة القوات الأمريكية من دون عقاب. وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية بات رايدر أن الضربات العسكرية الأمريكية ضد المليشيات الموالية لإيران تحمل رسالة واضحة للغاية مفادها أن أي تهديد للقوات الأمريكية في سوريا أو في أي مكان لن تتسامح معه الإدارة الأمريكية.

٢- انتقاد نهج الرد على الهجمات: على الرغم من استجابة الرئيس بايدن للضغوط الداخلية، وإصدار الأوامر بتنفيذ هجمات عسكرية ضد مواقع تمركز المليشيات المسلحة التي تنفذ هجمات ضد الأفراد والمنشآت العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق؛ إلا أن العديد من المشرّعين الجمهوريين وجهوا انتقادات للرئيس لفشل نهجه في الرد بضربات انتقامية. ويرى بعضهم أن نهجه الانتقامي غير كافٍ، حيث لم يردع المليشيات الموالية لإيران عن تنفيذ المزيد من العمليات المسلحة ضد الأمريكيين ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

فقد دعا السيناتور الجمهوري جيم إينهوف عضو لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، الإدارة الأمريكية إلى طرح استراتيجية حقيقية لردع الهجمات التي تشنها المليشيات المدعومة من إيران على الجنود الأمريكيين في العراق وسوريا بدلاً من الاستمرار فيما يعتبره رد الفعل الذي يتسم بالحد الأدنى والذي فشل في ردع إيران وفصائلها المسلحة والذي يُعرِّض حياة الأمريكيين لخطر متزايد.

٣- التباين حول الخيارات المتاحة أمام الرئيس: يرى العديد من المشرّعين الديمقراطيين أن استمرار العمليات المسلحة ضد القوات الأمريكية في المنطقة غير مقبول، إلا أنهم في الوقت نفسه يؤكدون أن الرئيس بايدن لا يملك السلطة لشن هجمات ضد المليشيات المسلحة الموالية لإيران دون الحصول على موافقة الكونجرس أولاً، الذي تتزايد الدعوات داخله لتعديل أو إلغاء التفويض العسكري لعامي 2001 و2002 الذي على أساسه شنت الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة عمليات عسكرية ضد التنظيمات الإرهابية والمسلحة التي تستهدف القوات الأمريكية في المنطقة. ويتزايد التأييد لهذا النهج داخل حزب الرئيس (الحزب الديمقراطي) وعديد من المشرّعين الجمهوريين، نظراً لحالة الاستياء المتزايدة داخل الولايات المتحدة من استمرار الحروب الأبدية في الخارج، وحالة عدم اليقين حول الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط بعد انسحاب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان في ٣١ أغسطس ٢٠٢١، وضرورة استعادة الكونجرس دوره في الموافقة على شن السلطة التنفيذية عمليات عسكرية في الخارج.

بينما يسعى مشرّعون آخرون، مثل السيناتور تيد كروز، إلى إدخال تعديلات على إجراءات إلغاء التفويض بما يحافظ على قدرة الرئيس على مهاجمة إيران ووكلائها في الشرق الأوسط لإظهار القوة في مواجهة الهجمات ضد الأمريكيين في المنطقة. وكثيراً ما يتخطى الرئيس سلطة الكونجرس لشن هجمات عسكرية في الخارج ضد المليشيات المسلحة المتهمة باستهداف الأمريكيين، من خلال الاستناد إلى صلاحياته بموجب المادة الثانية من الدستور الأمريكي للدفاع عن الأمريكيين عبر توجيه القوات العسكرية الأمريكية بتنفيذ عمليات تستهدف منفذي العمليات المسلحة ضد الأفراد والمنشآت الأمريكية في سوريا والعراق.

٤- اختبار سياسة إنهاء العمليات العسكرية بالمنطقة: تعهّد الرئيس بايدن منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض بإنهاء الحروب اللا نهائية في منطقة الشرق الأوسط. وبالفعل أمر بسحب القوات الأمريكية من أفغانستان في ٣١ أغسطس من العام الماضي رغم معارضة العديد من مسئولي وزارة الدفاع الأمريكية لإنهاء عقدين من حرب مكلفة مالياً وبشرياً، مع إعادة هيكلة مهمة القوات الأمريكية في العراق وسوريا. ولكنّ استمرار العمليات المسلحة ضد الأفراد والمنشآت الأمريكية يُعد اختباراً لسياسة بايدن لتقليل الانخراط العسكري في المنطقة حتى تتمكن الإدارة من التركيز على تحديات الداخل الأمريكي، والحرب الروسية-الأوكرانية، والسياسات الصينية في منطقة الإندوباسيفيك.

٥- الفصل بين المفاوضات النووية والتصعيد الميداني: يصر المسئولون الأمريكيون على أن بإمكانهم الاستمرار في المفاوضات مع إيران لإعادة إحياء الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥ حتى أثناء شن هجمات عسكرية ضد المليشيات المسلحة التي تدعمها طهران في الشرق الأوسط. فقد قال نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل، في إفادة صحفية في ٢٥ أغسطس الفائت، إنه سواء كان هناك اتفاق أم لا، فإن التزام الرئيس جو بايدن بحماية الأمريكيين ومواجهة أنشطة إيران التي تُعرِّض الولايات المتحدة وشركائها للخطر في المنطقة لا يتزعزع. وأضاف أنه لا علاقة للاتفاق النووي بالاستعداد والقدرة الأمريكية للدفاع عن الأمريكيين والمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

٦- الخلاف حول الوجود العسكري في سوريا: يتمركز حوالي ٩٠٠ جندي أمريكي في سوريا وتتمثل مهمتهم الأساسية في تدريب ومساعدة القوات الكردية، الحليفة للولايات المتحدة، والتي تقاتل تنظيم “داعش”. وقد جددت الهجمات المسلحة ضد القوات الأمريكية في سوريا الجدل حول المكاسب التي تعود على واشنطن من بقاء القوات الأمريكية في البلاد التي مزقتها حرب أهلية مستمرة منذ عقد. ولحسم هذا الجدل، قال الكولونيل جو بوتشينو المتحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية في بيان أُعلن فيه عن الهجمات العسكرية ضد المليشيات الموالية لإيران، في ٢٥ أغسطس الفائت، إن القوات الأمريكية لا تزال متواجدة في سوريا لضمان هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي.

تحركات متوازية

تسعى إدارة الرئيس جو بايدن إلى الموازنة بين السياسات التي تتبعها إزاء ملفات المنطقة، والتي تبدو متعارضة ظاهرياً. إذ تحاول تقليل الانخراط الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، في ظل العديد من التحديات الدولية والداخلية التي تتقدم أجندتها، ولكنها في الوقت ذاته لا تتردد في إصدار أوامر للقوات العسكرية الأمريكية بشن عمليات عسكرية خاطفة ضد المليشيات المسلحة المدعومة من إيران لضمان حماية الأمريكيين والمصالح الأمريكية في المنطقة، وهو توجه يبدو أنه سوف يستمر خلال المرحلة القادمة.