تدخل الأزمة الليبية فعلياً على خطوط التماس مع استراتيجيات الدول الكبرى الخاصة بهذه المنطقة من العالم. وثمة ملاحظات متعددة تكاد أن تتكامل فيما بينها لتؤكد على أن الملامح المستقبلية لهذه الأزمة، ومن ثم مستقبل الدولة الليبية ذاتها؛ إنما تتداخل فيها عوامل كثيرة، متشابكة ومعقدة، وهو ما يُلقي على المشهد حالةً من الضبابية وعدم الوضوح. وفيما يبدو، فإن الوضع في ليبيا بات يُمثل مجالاً حيوياً لمقاربات سياسية، من جانب كبرى دول الاتحاد الأوروبي، مما يدفع إلى مواقف متباينة تستخدم فيها كل دولة قدراتها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة.
تبذل الدول الغربية المنخرطة في الأزمة الليبية مساعٍ من أجل إعادة هذا البلد مجدداً إلى طريق “الاستقرار”، الذي بات أملاً وحيداً أمام الليبيين، وهو ما انعكس في البيان المشترك الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية، في 24 يونيو الجاري، حيث دعت من خلاله الولايات المتحدة والدول الأوروبية (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وإيطاليا) القادة السياسيين الليبيين إلى التفاوض للخروج من الأزمة، والتوافق على مسار للانتخابات.
وأكد البيان أن “العنف والتحريض على العنف وخطاب الكراهية أمور لا تغتفر وغير مقبولة”، رافضاً بشدة “إجراءات يمكن أن تؤدي إلى العنف، مثل إنشاء مؤسسات موازية، أو أي محاولة للاستيلاء على السلطة بالقوة، أو رفض الانتقال السلمي للسلطة”.
انقسامات سياسية
في أول رد فعل من رئيس الوزراء الليبي المكلف من جانب البرلمان، رحب فتحي باشاغا بالدعوة الأمريكية-الأوروبية المشتركة، وقال في تغريدة له على منصة التواصل الاجتماعي “تويتر”: “أرحب بالبيان، لا سيما الدعوة إلى حكومة ليبية موحدة، قادرة على الحكم وإجراء الانتخابات في جميع أنحاء البلاد، بصفتي رئيس تلك الحكومة المنتخبة والمدعومة من قبل مجلس النواب والدولة”.
وكان باشاغا قد دعا، قبل أيام، كافة الجهات والسلطات الأمنية والقضائية والمالية والعسكرية، إلى عدم التعامل مع حكومة عبدالحميد الدبيبة، بعد انتهاء ولايتها رسمياً، مشدداً على أن كل من يخالف ذلك يُعد خارجاً عن القانون.
ورغم أن حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة قد انتهت ولايتها (محلياً) بانتخاب حكومة باشاغا من قبل مجلس النواب، و(دولياً) بانتهاء اتفاق جنيف، في 21 يونيو الجاري، وفق خريطة الطريق التي تولى بموجبها عبدالحميد الدبيبة حكومة الوحدة الوطنية؛ فإن الأخير رفض التخلي عن السلطة لحكومة باشاغا، التي بدأت منذ أسابيع ممارسة مهامها من مدينة سرت، بعد تأكيد الدبيبة أنه لن يسلم السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات.
وفي ظل هذا الانقسام السياسي، ليس من الواضح ما إذا كانت المؤسسات الرسمية الليبية سوف تستمر في التعاطي والتعامل مع حكومة الدبيبة، خاصة أن الأوضاع الميدانية توحي باحتمال تصعيد عسكري؛ حيث استنفرت المليشيات الموالية للدبيبة قواتها، وانتشرت في شوارع العاصمة طرابلس ومداخلها الرئيسية.
هكذا، تجد ليبيا نفسها من جديد أمام مشهد مشابه لما كان عليه الحال عام 2015، أي حكومتان على الأرض لكل منهما جناح عسكري؛ وهو ما يدفع إلى التأزم والاحتقان، خاصة بعد فشل محادثات القاهرة في التوصل إلى قاعدة دستورية توافقية، تعبر بالبلاد إلى ضفة التحول الديمقراطي، عبر الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وكانت الأطراف السياسية الليبية قد اتفقت، في نوفمبر 2020، على الذهاب بالبلاد نحو انتخابات وطنية، كان من المقرر أن تُجرى في 24 ديسمبر الماضي، لإنهاء الانقسامات السياسية والصراعات الأمنية التي تعصف بالساحة الليبية، منذ انهيار نظام معمر القذافي في عام 2011؛ إلا أن هذه الانتخابات لم تتم في الموعد المحدد لها، بسبب ما وُصِف بـ”القوة القاهرة”.
متغيرات عديدة
رغم أن البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية يشتمل على قدر كبير من التوافق بين الدول الخمس على ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية التي تمر بها الساحة الليبية؛ إلا أن هذا التوافق لا يلغي وجود قدر من التنافس بينها بخصوص المصالح الاستراتيجية لكل منها على هذه الساحة، تفرضه متغيرات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تداعيات تراجع الدور الأمريكي: في إطار تراجع الدور الأمريكي حول العالم، لا يُتَوَقَّع للولايات المتحدة، في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، تقديم رؤى استراتيجية حول ليبيا. وفيما يبدو، فإن الولايات المتحدة تركت المسألة برمتها للاتحاد الأوروبي، فيما يُشبه تاريخياً تخلي القوى الكبرى (بريطانيا، فرنسا) عن دورها بعد الحرب العالمية الثانية لصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، من منظور أن الأخيرة تثق كثيراً في إيطاليا، كدولة تُعتبر “حليفاً وشريكاً استراتيجياً” لليبيا، حيث تتوغل إيطاليا هناك عبر شركة “إيني” الحكومية. ولعل هذا هو ما يوضح “أحد الأسباب المُهمة” لتمديد مجلس الأمن الدولي “عملية إيريني”، في 3 يونيو الجاري، والتي تعمل في قلب البحر الأبيض المتوسط، وتتمثل مهمتها الرئيسية في دعم تنفيذ حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا، وتسهم في الحد من تهريب النفط غير المشروع، والاتجار بالبشر. وعملية إيريني تتخذ من روما مقراً لقيادتها، وكانت قد انطلقت، في 4 مايو 2020، بحصولها على الضوء الأخضر من الاتحاد الأوروبي.
2- طموحات بريطانيا بالعودة إلى شمال أفريقيا: تسعى بريطانيا إلى ضمان أن يكون لشركاتها ومستثمريها موطئ قدم في بلد به فرص جيدة للاستثمار، في حال توافر الأمن. ومن ثم، لا مناص لبريطانيا من أن تكون شريكاً في صناعة الحد الأدنى من الاستقرار في ليبيا. وفي هذا الإطار، يأتي إعادة الافتتاح الرسمي للسفارة البريطانية في العاصمة طرابلس، في 4 يونيو الجاري، كما يأتي العمل البريطاني على بناء قاعدة استطلاع في القاعدة الجوية في مصراتة، بالتعاون الوثيق مع إيطاليا.
3- التنافس الفرنسي- الإيطالي في ليبيا: تعتبر فرنسا أن ليبيا تمثل المدخل الرئيسي لها بالعمق الأفريقي، وذلك في محاولة استغلال إرث القذافي السابق بأفريقيا، وما خلفته ليبيا بالقارة السمراء من استثمارات ضخمة، فضلاً عن أنها البلد الذي كان محتلاً للجنوب الليبي، ويعرف خبايا تلك المنطقة وكيفية التعامل مع القادة المحليين، من تبو وعرب وطوارق، وخلق فراغات بين هذه المكونات للاستفادة منها؛ حيث تحاول فرنسا أن تستخدم الملف الليبي لصالح مشروعها الاقتصادي والأمني بأفريقيا.
4- الطموح الألماني في المنافسة الاقتصادية: تبدي ألمانيا اهتماماً بالدخول كشريك مهم لأفريقيا عبر ليبيا، ومنافسة الصين التي تعمل بصمت تام في مناطق نفوذ الغرب القديم، وذلك على الرغم من أن ألمانيا ليس لها إرث استعماري بالمنطقة، وسياستها الخارجية تجاه ليبيا -والشمال الأفريقي عموماً- محدودة الطموح؛ حيث تتركز رؤيتها الخارجية على شرق أوروبا الذي يمثل مجالها الحيوي الأهم.
5- التوجه الروسي للتواجد المتوسطي: وذلك عبر محور (سوريا – ليبيا)؛ إذ أنه بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، لا يبدو أن ثمة مقاربات سياسية ذات ملامح عقابية يستطيع بها الاتحاد الأوروبي ردع روسيا في الوقت الحالي، فالأوراق المتناثرة بين الفريقين بسوريا وإيران والعراق ولبنان وليبيا، لا تسمح لأي منهما أن يكون الفائز الأوحد، حيث أنها أشبه بـ”سايكس بيكو” غير معلنة، لا تفرضها المفاوضات بعد حروب منهكة، بل يفرضها الاقتصاد المنهك، واختبار أي الطرفين أقدر على تحمل تبعات التحرك العسكري.
أما الدول الأخرى، مثل تركيا التي أقرت بقاء قواتها العسكرية في ليبيا 18 شهراً أخرى، أو إسبانيا التي تحاول الدخول على خط الأزمة الليبية بسبب ملف الطاقة؛ فإن مدى تأثيرها في تفاعلات الأزمة الليبية يظل محدوداً، خصوصاً في ظل التنافس القوي معها من جانب القوى الإقليمية، لا سيما مصر والجزائر.
مواقف مختلفة
خلاصة القول، إن ثمة مواقف متباينة لكبرى دول الاتحاد الأوروبي في ليبيا، وهي سياسات جزئية متعارضة فيما بينها، تستخدم فيها كل دولة قدراتها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة. ومن ثمّ ستظل ليبيا المجال الحيوي لصراع الدول الأوروبية الكبرى الأربع (إيطاليا، بريطانيا، ألمانيا، فرنسا)، إضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا بالطبع.
ولعل ذلك ما يساعد حكومة الدبيبة، المنتهية ولايتها، في استغلال تذبذب الموقف الدولي المتأثر بالحرب الروسية في أوكرانيا، التي ألقت بظلالها على الملف الليبي في أروقة مجلس الأمن الدولي؛ حيث يبدو الانقسام بوضوح بين التكتل “الروسي الصيني” الذي يرى أن الحل يكمن في إرسال مبعوث أممي جديد إلى ليبيا، في حين يُصر التحالف “الأمريكي البريطاني الفرنسي” على إدارة الأزمة عبر التمديد للمبعوثة الأممية الحالية ستيفاني وليامز.
ورغم ذلك، يبدو أن السيناريو الأقرب هو اعتراف المجتمع الدولي بحكومة باشاغا، خاصة إثر الزخم الدولي الأخير الذي حظيت به، المتمثل في لقاء باشاغا وزيرين بريطانيين، إضافة إلى الزيارة الرسمية لرئيس وفد الاتحاد الأفريقي، وزير خارجية الكونغو برازافيل جان كلود جاكوسو، لنائب رئيس مجلس الوزراء في الحكومة الليبية علي القطراني في مدينة بنغازي، في 23 يونيو الجاري، وما تلاها من تصريحات جاكوسو بأن شرعية الحكومة الليبية المنبثقة عن مجلس النواب، برئاسة فتحي باشاغا “لا غبار عليها”.