جلسة استماع:
أبعاد التحول في السياسة التركية تجاه المنطقة العربية

جلسة استماع:

أبعاد التحول في السياسة التركية تجاه المنطقة العربية



نظّم مركز «العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة»، بالقاهرة، بتاريخ 24 مايو 2022، جلسة استماع بعنوان “أبعاد التحول في السياسة التركية تجاه المنطقة العربية”. واستضاف المركز السفير عبد الرحمن صلاح مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وسفير مصر الأسبق في تركيا (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عدد من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبد العاطي، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ كرم سعيد، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ هيثم عمران، والأستاذة ميرفت زكريا، والأستاذ علي عاطف، والأستاذ مصطفى كمال.

مداخل رئيسية

يُحدد “صلاح” عدداً من المداخل لفهم أبعاد السياسات التركية تجاه المنطقة العربية، ولا سيما في أعقاب الحراك الثوري العربي في عام 2011، وأبرزها كالتالي:

1- محاولة استغلال احتجاجات “الربيع العربي”: تعد الفترة بين 2011-2013، نقطة التحول الأولى في السياسة التركية تحت قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، مع محاولة لاستغلال تلك الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة العربية لصالحه، في ظل وجود مؤشرات على تصاعد دور جماعات “الإسلام السياسي”، وبالتالي تولدت لديه رغبة في امتطاء هذا الجواد، فإن لم يكن حاكماً على المنطقة، فعلى الأقل سيكون متحدثاً باسمها، ليكون عبارة عن همزة الوصل بين المنطقة العربية والعالم الخارجي.

2- التحول من القوة الناعمة إلى القوة الصلبة: ويرتبط بمحاولة استغلال الاحتجاجات التي بدأت في 2011 التحول من الاعتماد على القوة الناعمة إلى القوة الصلبة، حيث تحول من التركيز على الفن والسياحة وغيرها، إلى دعم الجماعات المسلحة التي تنتمي لتيار “الإسلام السياسي”، وتحديداً في بؤر الصراعات المسلحة في سوريا وليبيا.

3- تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة والكفاءة في نخبة الحكم: تواكب مع التحولات في السياسة الخارجية، تحولات أخرى داخلية؛ إذ توسع في الاعتماد على الأقارب وأهل الثقة والموالين له وتحديداً من “الإسلاميين”، إذا جاز التعبير. في حين أنه كان يعتمد سابقاً على الخبراء والسفراء، في مختلف التخصصات سواء الاقتصاد أو السياسة الخارجية، بغض النظر عن التوجهات.

4- استعداء الدول الكبرى في المنطقة العربية: أدت سياسات “أردوغان” في المنطقة العربية خلال السنوات الماضية، إلى تشكيل عداء مع الدول الكبرى بالمنطقة، بفعل دعمه لتيار “الإسلام السياسي” على اختلافه، وهنا فإن هذا العداء كان من صنع “أردوغان”، إذ تعمد اتخاذ موقف مناهض للنظام في مصر في أعقاب عزل محمد مرسي على سبيل المثال، كما أنّ هذا الدعم المقدم لهذا التيار أوجد مخاوف لدى أطراف عربية (مثل الإمارات والسعودية)، مما ولّد شعوراً لدى دول المنطقة بالتهديد.

دوافع التحولات

يُشير “صلاح” إلى عدد من الدوافع الرئيسية لتحولات السياسة التركية تجاه المنطقة العربية، خلال الأشهر القليلة الماضية، وهي كالتالي:

1- التعرض لضغوط اقتصادية شديدة: تواجه تركيا خلال الفترة الأخيرة، ضغوطاً اقتصادية شديدة، فالاقتصاد التركي الذي كان منتعشاً أُصيب بأزمة نظراً لتراجع الاستثمارات، ويرتبط ذلك بارتفاع الشعور بالمخاطر من قبل المستثمرين، إضافة إلى اعتماد “أردوغان” على اقتصاديين غير محترفين، كما أدخل بعض التغييرات الاقتصادية التي تعود لقرون مضت، وبالتالي فهو يحتاج لعملية إنقاذ من قبل دول الخليج، عبر استثمارات عاجلة.

2- انقسام داخل الكتلة المؤيدة لـ”أردوغان”: مثلما كانت سياساته مؤثرة على مستوى علاقاته الخارجية، فإنها كانت مؤثرة أيضاً على الكتل القريبة منه والمؤيدة له بنفس القدر، فمصدر الانقسام كان سياساته في سوريا وعدم اتخاذ موقف في واقعة سفينة “مرمرة” رغم التهديدات، مما أسفر عن معارضة فتح الله جولن علناً لـ”أردوغان”، ثم ملاحقة مجموعات جولن بعدما كشفوا تلك السياسات، وتزويد مجموعات “الإسلام السياسي” العنيفة بالسلاح في سوريا، وهذه المجموعة تمثل أزمة كبيرة لـ”أردوغان” لأنها كشفت الصورة التي كان يصدرها في الغرب.

3- شعور “أردوغان” بالعزلة دولياً وإقليمياً: بدأ “أردوغان” يشعر بالعزلة دولياً وفي منطقة الشرق الأوسط بفعل سياساته، بغض النظر عن استمرار العلاقات الاقتصادية مع مصر على سبيل المثال، ولكن على المستوى السياسي كانت ثمة توترات شديدة مع دول عربية كبيرة، ومن ضمن الملفات التي أثرت في عزلتها أيضاً التقارب المصري مع اليونان وقبرص، والتفاهمات حول شرق المتوسط، وظلت تركيا بمعزل عن هذه التفاهمات. أما دولياً، فإن ثمة توترات بين تركيا وعدد من الدول الغربية بسبب سياسات “أردوغان”، خاصة في إدارة العلاقات بين الغرب من جهة، وروسيا من جهة أخرى، وأسفر التوجه للحصول على دفاعات جوية من روسيا إلى تعطيل حصولها على طائرات “F-35” من أمريكا، وباتت تركيا بلا “أصدقاء”.

4- عدم الرغبة في الصدام العسكري مع مصر: يمكن تفسير التحول الجديد في السياسة التركية، في ضوء عدم الرغبة في الصدام العسكري بالمنطقة، وتحديداً على مستوى الأزمة الليبية، فتدخّل مصر ورسم الخط الأحمر “سرت –الجفرة” كان حاسماً في عدم التصعيد التركي، والتراجع عن سياساتها هناك. وبالنظر إلى تعدد القواعد العسكرية البحرية لتركيا في نحو 12 دولة، فإن أسطولها ما كان ليتمكن من الدخول في مواجهة مع مصر. وبشكل عام فإن القوات التركية تكون قوية إذا ما شاركت في قتال مع قوات أخرى مثل حلف الناتو، وبخلاف ذلك يمكن أن تتعرض لهزيمة كبيرة أمام مصر، بالنّظر إلى ميزة كبيرة هي أن ليبيا قريبة من مصر، عكس تركيا التي تبعد عنها، وبالتالي فإن التهدئة وتراجع “أردوغان” عن سياساته كان وفقاً لهذه الحسابات.

5- تصاعد التوترات مع الغرب بفعل سياسة “الابتزاز”: أوجدت سياسات “أردوغان” بدعم جماعات “الإسلام السياسي” بما فيها التي تميل إلى العنف، تصاعداً في التوترات مع الدول الغربية، وتحديداً الأوروبية، في ضوء تراجع النظرة الغربية إلى تركيا، باعتبارها النموذج المعتدل الذي يحقق معادلة “الدولة العلمانية ذات السياسة المتوازنة”، فكان يتم النظر إلى تركيا على أنها ليست النموذج للمسلمين في المنطقة العربية فقط، وإنما للمسلمين في الدول الغربية، مع الوضع في الاعتبار زيادة ميزانية “رئاسة الشؤون الدينية التركية”، والتحرك على مستوى عدة دول، ولكن اكتشفت الدول الغربية أن هذه الهيئة لها أهداف سياسية للترويج لـ”أردوغان”، كما أن الدول الغربية بدأت تشعر بأن “أردوغان” يعمل على ابتزازهم على مستوى أكثر من ملف، وتحديداً ملف اللاجئين السوريين، حيث يمنع تدفقات اللاجئين مقابل تمرير إنشاء “منطقة آمنة” بعمق 30 إلى 50 كم، إضافة إلى استغلال الأزمة الأوكرانية، وباتت أمريكا وأوروبا ترى أن لديه مخططات خاصة يمكن أن تكلف العالم الغربي الكثير.

تفاهمات ضرورية

يتطرق “صلاح” إلى أن العلاقات بين مصر والإمارات والسعودية قوية، ولكنها ليست متطابقة تماماً، ولكن يتم التنسيق في قضايا رئيسية مشتركة. وبعيداً عن التقارب المتقدم بين تركيا من جهة، والإمارات والسعودية من جهة أخرى، وتعطل هذا التقارب مع مصر، فعلى ما يبدو ثمة تنسيق بين الدول الثلاث حيال التعامل مع هذا الملف. ويحدد 3 نقاط رئيسية ينبغي للدول الثلاث التركيز عليها، وهي:

1- تراجع دعم “أردوغان” لتيار “الإسلام السياسي”: إن دعم “أردوغان” لتيار “الإسلام السياسي” مصدر قلق للدول الثلاث، وبالتالي يجب تحقيق تفاهمات مع تركيا حيال ذلك، وإن كان سيكون هناك تباطؤ في هذ الملف من قبل “أردوغان” إلى ما بعد الانتخابات في عام 2023، إذ إن 30% تقريباً من الكتلة المؤيدة له تمثل التيار المحافظ (المتدين)، وبات هؤلاء هم الكتلة المصوتة له، وبالتالي يحتاج إليهم في ظل خسارته للأكراد، وعدم قدرته على التحالف مع العلمانيين، ولم يبقَ أمامه سوى “المتطرفين قومياً” للتحالف معهم، كما أن “أردوغان” سيسعى لتوظيف المنتمين لـ”الإسلام السياسي” من غير الأتراك، ويُقدر عددهم بـ30 ألف شخص، لصالحه، حتى مع إقدامه على التقارب مع مصر، فيمكن إخراجهم إلى دول أخرى بعد حصولهم على الجنسية التركية، ولكن مصر تشدد على المطالبة بالصادر ضدهم أحكام والمتورطين في الدماء.

2- تحجيم مساعي التوسع التركي في المنطقة العربية: كما ينبغي للدول الثلاث العمل على تحجيم التوسع التركي في المنطقة العربية، خاصة أنه خلال الفترة الماضية كان ثمة تراجع للقوى العربية، بما أنتج فراغاً كبيراً، بصورة دفعت الأطراف الإقليمية غير العربية إلى الهيمنة على المنطقة. ولكن مع بروز تكتل عربي قوي متماسك، يمكن موازنة التوسع لقوى غير عربية، فإذا تحسن الوضع الاقتصادي لتركيا فيمكن أن تعود تركيا لسياساتها مرة أخرى.

3- مواجهة التطرف وملء الفراغ في المنطقة: لا بد للقوى العربية العمل على مواجهة التطرف في المنطقة، لأنه يؤدي إلى تشكيل تيار “الإسلام السياسي”،مع الوضع في الاعتبار اتجاه الدول الأوروبية لمواجهة هذا التيار في دولهم، مثل فرنسا على سبيل المثال، ودول أخرى، بعد إدراك خطورته والدور التركي في دعمه هناك، كما ينبغي اتجاه القوى العربية لملء الفراغ الذي قد يخلفه انسحاب روسيا من الساحة الليبية على وقع الأزمة الأوكرانية، وعدم إتاحة الفرصة لتركيا لملء هذا الفراغ، وتحديداً الحديث عن مصر، بما لديها من ثقل على مستوى الأزمة الليبية، بعدم التقارب مع كل الأطراف على الساحة هناك.

انتخابات مؤثرة

وأخيراً، يُقر “صلاح” بمواجهة “أردوغان” انتخابات مؤثرة للغاية خلال العام المقبل، وسعيه لتأسيس الجمهورية الثانية تحت قيادته، إذ إن الجمهورية الأولى تأسست على يد أتاتورك، وبالتالي فإن جهود التهدئة ومراجعة السياسات، تأتي في ظل مساعي الفوز بالانتخابات، قبل أن يشير إلى تداعيات عدم بقاء “أردوغان” في السلطة، ومنها انقسام بين التيار المحافظ المؤيد له حالياً، نظراً لعدم وجود اتفاق على شخصية لها إنجازات، كما أن لذلك تداعيات على المعارضة التي تمثل أكثر من 50% والمتفقة على معارضة “أردوغان”، وفي حال رحيله يمكن أن تعود الانقسامات بينهم، ويمكن أن يظهر “أربكان” أو “أردوغان” جديد في تركيا، فاختفاؤه عن المشهد ليس بالضرورة في صالح الدول المناوئة له.