تعرضت تركيا ومناطق شمال سوريا، في 6 فبراير الجاري، لزلزال هو الأعنف منذ نحو قرن، وبلغت قوته 7.8 درجات على مقياس ريختر، إلى درجة أن بعض وسائل الإعلام أطلقت عليه “زلزال العصر”، بحكم ما أسفر عنه من مقتل آلاف الأشخاص، وإصابة عشرات الآلاف، وتشريد الملايين، إلى جانب الخسائر الحادة التي لحقت بالبنية التحتية، وهو ما يقود إلى جملة من التأثيرات الأمنية المحتملة، تتمثل في تنامي الجرائم الفردية، وتغول الجماعات الإجرامية في مناطق الزلزال التي باتت تعاني من الهشاشة الأمنية، وقد تمتد التأثيرات الأمنية إلى واقع الصراع بين أنقرة ومنظمة حزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى الانخراط التركي في صراعات الإقليم.
مؤشرات دالة
تعاني المناطق التي تعرضت للزلزال المدمر من اضطرابات أمنية لافتة ومتصاعدة، كشف عنها توعد الرئيس التركي، في 11 فبراير الجاري، باتخاذ إجراءات ضد مرتكبي جرائم السلب وغيرها في المنطقة المتضررة من الزلزال المدمر. كما حذر مدير مركز “عدالة” لحقوق اللاجئين في تركيا، أحمد قطيّع، من احتمال قيام عصابات الاتجار بالبشر برصد وملاحقة واختطاف الأطفال في مناطق الزلزال، سواء في تركيا أو مناطق الشمال السوري، خاصة ممن لم يتم التعرف عليهم بحجة أنهم من أقربائهم.
في المقابل، علقت بعض فرق الإنقاذ الأجنبية، منذ 11 فبراير الجاري، مشاركتها في أعمال الإغاثة وجهود الإنقاذ لضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا، وعادت إلى البلاد بسبب ما أسمته تهديداً أمنياً “كبيراً” لموظفيها. فعلى سبيل المثال، أعلنت منظمة “هتسالا المتحدة”، وهي منظمة إغاثية إسرائيلية، في 12 فبراير، تعليق عملياتها، وكذلك أصدر الجيش النمساوي وطواقم إنقاذ ألمان، في 10 فبراير الجاري، بياناً بشأن تعليق جهودهما الإغاثية بسبب مخاوف أمنية. وأوردت مجموعة “أسار” الألمانية “أنباء عن اشتباكات بين مجموعات مختلفة” على طول الحدود السورية التركية، وإطلاق أعيرة نارية.
تداعيات محتملة
مع تفاقم تداعيات الزلزال المدمر الذي شهدته تركيا، وانشغال الأجهزة الأمنية التركية بالتعامل مع تداعياته، فإن ثمة تأثيرات أمنية محتملة على المشهد التركي، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- هدوء مؤقت مع حزب العمال الكردستاني: يتوقع أن تتصاعد فرص التهدئة بين الدولة في تركيا ومنظمة حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا “إرهابياً” خلال المرحلة المقبلة، ويدعم هذا التوجه إعلان الكردستاني عشية وقوع الزلزال عن هدنة مؤقتة، كما أعلن الكردستاني تعليق كل عملياته مؤقتاً في تركيا، وذلك بهدف تركيز كل الموارد على جهود الإنقاذ. وأكد المسؤول العسكري في الحزب “جميل بايق”، في 10 فبراير الجاري، وفق ما نقلت عنه وكالة فرات للأنباء المقربة من الحزب، وجود أوامر بعدم القيام بأي عملية في المدن التركية إلاّ في حال تمت مهاجمة الحزب من قبل القوات التركية. وأضاف: “تسبب الزلزال بكارثة هائلة. آلاف من أبناء شعبنا تحت الأنقاض. على الجميع حشد كل إمكاناتهم”.
وعلى الرغم من عدم وجود تعليق تركي رسمي على تصريحات “بايق”؛ إلا أنه يتوقع أن تلتقط حكومة العدالة والتنمية الخيط، لتعزيز الاستفادة من هذا الإعلان من أجل وقف التصعيد في هذا التوقيت، خاصة أن الرئيس التركي يعي أن خفض التصعيد مع الكرد يمنح حكومة العدالة والتنمية والجيش التركي فرصة أكبر للتعاطي مع الأزمة الإنسانية التي سببها الزلزال من جهة، ومن جهة أخرى فإن تهدئة التوتر مع الأكراد يقطع الطريق على توظيف الخصوم الورقة الكردية والعنف الممنهج الذي تمارسه الدولة التركية ضد الأكراد جنوب شرق تركيا خلال العملية الانتخابية المقرر لها مايو المقبل.
لكن من غير المرجح أن تستمر حالة الهدوء هذه على المدى المتوسط أو البعيد، خاصة أن الرئيس أردوغان سمح للأجهزة الأمنية باستخدام تدابير استثنائية تسمح لها بتضييق الخناق على النشاط السياسي في المناطق الكردية جنوب شرق البلاد. وبالمقابل، أصدر حزب الشعوب الديمقراطي الجناح السياسي للأكراد بياناً، في 9 فبراير، اتّهم الحكومة التركية بـ”محاولة حماية نفسها بدلاً من تنظيم تدخلها وتقديم المساعدة للناس”، وأضاف البيان: “إن ما يتعين عليها القيام به ليس إعلان حالة طوارئ، بل إقامة تحالف اجتماعي”.
2- تشديد التدابير الأمنية مع القوى المناوئة للحكومة في الداخل: أدى الزلزال الذي ضرب تركيا، في 6 فبراير الجاري، إلى تصعيد الضغوط على الحكومة التركية، ووصلت هذه الضغوط إلى الذروة مع تنامي الانتقادات لعمليات الإغاثة، بالإضافة إلى سعي خصوم الرئيس التركي في الداخل إلى استثمار أزمة الزلزال لمحاصرة تحركاته سياسياً. في هذا السياق، يتوقع أن تتجه الحكومة التركية خلال الفترة المقبلة إلى تشديد التدابير الأمنية في الداخل، وتبني مقاربة أمنية أكثر شدة، خاصة مع التيارات والاتجاهات التي تسعى إلى استثمار الزلزال سياسياً وأمنياً.
وظهر ذلك في تأكيد وزير الداخلية التركي، في 13 فبراير الجاري، على أن الأجهزة الأمنية ستقف في وجه كل من يحاول استغلال المحنة التي تمر بها البلاد. وأضاف: “سنستخدم القانون للقضاء على مروجي الشائعات باستخدام حالة الطوارئ”. وتابع: “الأخبار الكاذبة أخطر من القنبلة النووية، وهو ما سنقف ضده”. بالتوازي مع ما سبق، فقد أمرت الحكومة التركية في 7 فبراير مزودي خدمات الاتصالات، بمنع وصول الأفراد إلى موقع “تويتر”، خوفاً من إمكان استخدامه لنشر “معلومات مضللة”.
ويتوقع أن يتجه النظام الحاكم في تركيا إلى استخدام العصا الغليظة في مواجهة خصومه السياسيين، خاصة مع تصاعد انتقادات أحزاب المعارضة، وبخاصة حزب الشعب الجمهوري، الذي اتهم رئيسه كمال كيليجدار أوغلو الحكومة التركية بأنها “لم تستعد لوقوع زلزال منذ 20 عاماً”. ورأى أنه إذا كان هناك من شخص واحد مسؤول عن ذلك فهو أردوغان. وقد دفعت هذه الاتهامات أردوغان إلى اللجوء إلى المحطات الإذاعية للشكوى من بروز “أخبار كاذبة” ذات دوافع سياسية تتعلق بالزلزال. وقال في تصريحات له في 10 فبراير الجاري: “إننا نراقب عن كثب أولئك الذين ينوون إثارة البعض من شعبنا ضد البعض الآخر بأنباء مزيفة وتحريفات ملفقة. اليوم ليس الوقت المواتي للدخول في جدال معهم، لكننا سنفتح سجلاتنا التي نحتفظ بها الآن، عندما يصبح الوقت مناسباً”.
3- تغوّل الشبكات الإجرامية: والتي تفسرها حالة هشاشة البنية الأمنية في المناطق المتضررة من الزلزال، وتدمير جانب معتبر من تلك البنية في هذه المناطق، وهو ما يُلقي الضوء على تصاعد الضغوط على أنقرة لضبط العملية الأمنية في المحافظات المتضررة من الزلزال، على نحو يؤدي إلى تفاقم تهديد العصابات الإجرامية. ويُشار إلى أن وزارة الداخلية التركية أصدرت، في 14 فبراير الجاري، مذكرات اعتقال بحق 97 شخصاً بتهمة القيام بأعمال نهب في المنطقة التي ضربها الزلزال.
4- تخفيف العسكرة تجاه صراعات الإقليم: تبدو فكرة تقليص الانخراط في صراعات الإقليم خلال المرحلة المقبلة، أكثر قبولاً بالنسبة للعديد من المراقبين، نظراً لانشغال الجيش التركي بتداعيات الزلزال المدمر، حيث أعطى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أوامر بنشر نحو تسعة آلاف جندي للمساعدة في جهود الإغاثة، كما أعلن حال طوارئ لمدة ثلاثة أشهر في المحافظات المنكوبة. في هذا السياق، يتوقع إيقاف العمليات العسكرية التركية في مناطق الشمال السوري، أو على الأقل تخفيف وتيرتها للحد الأدنى خلال المرحلة المقبلة. كما يحتمل تجميد مؤقت للغارات الجوية التي يشنها الجيش التركي على مناطق الشمال العراقي، خاصة بعد إعلان الكردستاني وقف عملياته ضد أنقرة.
وعلى الجبهة اليونانية، يتوقع اتجاه تركيا نحو التوقف عن عسكرة الأزمة مع اليونان، خاصة أن الأخيرة أبدت جهوداً إنسانية لافتة حيال تركيا عشية وقوع الزلزال، فقد أرسلت بجانب المساعدات الغذائية لضحايا الزلزال فرق إغاثة، ناهيك عن زيارة وزير الخارجية اليوناني في 12 فبراير لتركيا وتفقده المناطق المنكوبة. ولعل هذا ما يفسر تصريحات وزير الخارجية التركي، الذي قال عشية استقباله نظيره اليوناني مؤخراً: “إننا يجب ألا ننتظر زلزالاً آخر لتحسين علاقاتنا. أكرر هذا الآن كوزير خارجية تركيا.. يجب أن نبذل جهوداً لتحسين علاقاتنا”. وأضاف: “الصديق الحقيقي يظهر وقت الضيق”، في إشارة إلى اليونان. كما تعي تركيا أن خفض التصعيد مع اليونان يمثل فكرة ذات مكاسب استراتيجية بالنسبة للجانب التركي، لضمان حل القضايا العالقة مع القوى الغربية التي تدعم اليونان في مواجهة التحركات التركية في شرق المتوسط وبحر إيجه، بالإضافة إلى إيصال رسالة للداخل التركي بأن حكومة العدالة والتنمية هي محل ثقل وتقدير لدى القوى الدولية، حتى خصومها.
5- استخدام القوة ضد اللاجئين السوريين: تزامن الزلزال الذي شهدته تركيا ومناطق الشمال السوري مع مساعي حكومة العدالة والتنمية للتخلص من عبء اللاجئين بعد أن تحولوا إلى ورقة ضاغطة على أعصاب الاقتصاد التركي من جهة، ومن جهة أخرى ورقة ضاغطة تسعى المعارضة إلى توظيفها انتخابياً. لكن مع تصاعد التكهنات بشأن احتمال موجة جديدة من اللاجئين السوريين الذين تضرروا من الزلزال إلى تركيا، فإن الحكومة التركية أبدت رفضاً مسبقاً تجاه هذا الاحتمال، ووعدت باستخدام القوة ضد مثل هذه المحاولات، وظهر ذلك في تأكيد وزير الخارجية مولود أوغلو في تصريحات له في 13 فبراير الجاري، على أن “بلاده لن تسمح بتدفق جديد للاجئين من سوريا بعد الزلزال”، وأضاف: “مزاعم أن ثمة تدفقاً جديداً للاجئين من سوريا إلى تركيا (بعد الزلزال) غير حقيقية. لن نسمح بذلك. هذا أمر لا نقاش فيه”. وتابع: “نسهل المساعدات الإنسانية على السوريين، ولكننا لن نسمح بتدفق جديد للاجئين السوريين. هاتان قضيتان منفصلتان”.
تحييد الضغوط
ختاماً، يمكن القول إن ثمة تداعيات أمنية محتملة ومتنوعة قد تسفر عن الزلزال المدمر الذي شهدته تركيا، وهو ما قد يدفع تركيا إلى تبني مقاربات أمنية متشددة ورفع العصا الغليظة لتحييد الضغوط الأمنية المتوقعة أو على الأقل محاصرة آثارها السلبية. وبقدر ما قد تُسهم تداعيات الزلزال في تخفيف التوتر مع حزب العمال الكردستاني، فإن توظيف المقاربة الأمنية تجاه الداخل واللاجئين، قد تحمل تكلفة مرتفعة على الحزب الحاكم الذي يقف على أعتاب انتخابات مفصلية في مايو المقبل.