شواغل استراتيجية:
أبعاد الاهتمام الروسي بالانتخابات الليبية المرتقبة

شواغل استراتيجية:

أبعاد الاهتمام الروسي بالانتخابات الليبية المرتقبة



فيما يبدو أنه خطوة استباقية تقوم بها روسيا في الدخول على خط الانتخابات الليبية المرتقبة، عبر زيارة وفد روسي إلى المفوضية الليبية العليا للانتخابات؛ إلا أن هذه الخطوة تُعبر، في الوقت نفسه، عن شواغل استراتيجية روسية تتعلق بالملف الليبي، سواء من حيث التحديات أمام روسيا في محاولتها استغلال هذا الملف في المساومة على ملفات أزمات أخرى في جوارها الجغرافي، وأهمها مواجهة خطة بايدن “العشرية” في ليبيا، والمحاولة الروسية لكسر “العزلة” الدولية عنها، عبر البوابة الليبية. وبالإضافة إلى تلك التحديات، تتعدد الدوافع الروسية للاهتمام بالملف الليبي. هذه الدوافع تختص بأهمية ليبيا الاستراتيجية بالنسبة إلى روسيا، ومحاولة روسيا استغلال تأثير ليبيا الجيوسياسي على جنوب أوروبا من خلال ملفي الطاقة واللاجئين؛ فضلاً عن أهمية الموارد الليبية بالنسبة للاقتصاد الروسي المأزوم بفعل العقوبات الغربية.

لعل الاهتمام الروسي بالانتخابات الليبية المرتقبة يبدو بوضوح عبر التزامن المثير للانتباه في زيارة الوفد الروسي إلى المفوضية الليبية العليا للانتخابات، قبل إعلان لجنة “6+6” في ختام ثاني أيام مفاوضاتها في مدينة بوزنيقة المغربية، مساء 23 مايو الجاري، عن التوافق حول النقاط المتعلقة بانتخاب رئيس الدولة وأعضاء البرلمان؛ مما يطرح أملاً في إجراء الانتخابات خلال العام الجاري.

دوافع رئيسية

ثمة دوافع تستند إليها روسيا في هذا الاهتمام تتيح لها بقدر ما مجالاً أوسع للمساومة في ملفات أزمات أخرى، مثل سوريا وأوكرانيا. ولعل أهم هذه الدوافع:

1- أهمية ليبيا الاستراتيجية بالنسبة إلى روسيا عبر النفاذ إلى القارة الأفريقية: إذ تبرز ليبيا باعتبارها إحدى أهم الساحات التي تسعى الولايات المتحدة لتحجيم النفوذ الروسي فيها، خاصة أن موسكو تملك مشروعات اقتصادية طموحة للتوسع في المناطق الليبية المختلفة، ومنها إلى عموم القارة الأفريقية؛ سواء كانت تلك المشروعات في مجال الطاقة، أو في تطوير البنية التحتية الاقتصادية للبلاد، في مراحل لاحقة.

ومن ثم تتحدد الرؤية الروسية إلى ليبيا في مجموعة جوانب استراتيجية، منها أن ليبيا دولة غنية بالنفط والغاز، وتمتاز بموقع جيواستراتيجي على البحر المتوسط، كما يمكن أن تكون نافذة على أفريقيا. ثم إن التواجد الروسي في كل من سوريا وليبيا، والعلاقات الودودة مع مصر وعدد من دول الخليج، فضلاً عن الجزائر؛ يجعل من روسيا لاعباً دولياً في تفاعلات مساحة جغرافية واسعة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

2- استغلال تأثير ليبيا الجيوسياسي على جنوب أوروبا من خلال ملفي الطاقة واللاجئين: حيث إن موقع ليبيا يضعها على مفترق طرق الساحل في جنوب أوروبا وشمال أفريقيا؛ فهي لا تبعد سوى 390 ميلاً بحرياً عن مالطا، و486 ميلاً بحرياً عن جزيرة لامبيدوزا الواقعة في أقصى جنوب إيطاليا، إضافة إلى آلاف الكيلومترات من الحدود المشتركة مع الدول العربية والأفريقية المجاورة لها.

وبالتالي، فإن الحفاظ على الحضور الروسي في ليبيا يُكسبها نفوذاً كبيراً على أوروبا عموماً، وجنوب أوروبا بشكل خاص، من منظور أن الروس، عبر هذا الحضور، يمكن لهم التحكم في ملفين استراتيجيين بالنسبة للأوروبيين: ملف الطاقة، وملف اللاجئين؛ بما يعني أن أي أزمة للاجئين تنبثق من ليبيا يمكن أن تُعيد التوترات، وتُعزز من تصاعد اليمين المتشدد، وتزعزع استقرار الاتحاد الأوروبي.

3- استثمار الحضور الروسي في ليبيا كفاعل دولي: إضافةً إلى إمكانية الضغط الروسي على الاتحاد الأوروبي، عبر ورقتي النفط واللاجئين، في ملفات أخرى بعيدة عن ليبيا، مثل: ملف انتشار الصواريخ في أوروبا الشرقية، وملف جزيرة القرم، وغيرها؛ فإن روسيا تُدرك تماماً أهمية أن تتشبث بمواقعها التي اكتسبتها حول العالم، وفي مقدمتها سوريا وليبيا، بل وأن تجعل منها عوناً في محاولة التفوق على الناتو في المعركة الدائرة في أوكرانيا.

وتبدو أهمية ليبيا، ربما بشكل يتفوق على سوريا من المنظور الروسي، عبر نجاح موسكو في تأسيس علاقات قوية مع دول عربية نافذة مثل مصر والإمارات والسعودية، انطلاقاً من الرؤية المشتركة للحل في ليبيا، هذا إلى جانب النجاح الروسي في خلق “حالة إعلامية” ناقمة، بشكل خاص في دول الجنوب، ومنها الدول الأفريقية، على الدور العسكري “الغربي” الذي تسبب في تخريب ليبيا، وإشاعة الفوضى فيها.

4- أهمية الموارد الليبية للاقتصاد الروسي المأزوم بفعل العقوبات الغربية: إذ تسعى روسيا لأن تكون جزءاً من المعادلة في ليبيا، وتثبيت تواجدها العسكري هناك، عبر مجموعة “فاغنر”، لتكون نقطة انطلاق إلى العمق الأفريقي وحجر الأساس لحماية مصالحها. كما تهتم روسيا بالموارد الليبية، خاصة بما يتوافر لديها من خبرة في قطاع الطاقة الذي تزخر به ليبيا.

فضلاً عن ذلك، تتبدى الرغبة الروسية في محاولة استعادة بعض العقود بمليارات الدولارات التي كانت قد أبرمتها مع “القذافي”، إضافة إلى ما تتيحه ليبيا، عبر موانئها وسواحلها الطويلة على البحر المتوسط، من فرص لوجستية واسعة لإمكانية أن تلعب روسيا دور الفاعل على محور “سوريا – ليبيا” في هذه المنطقة الحساسة بالنسبة إلى أوروبا والولايات المتحدة أيضاً.

تحديات متشابكة

هناك عدد من التحديات المتشابكة التي تواجه روسيا في محاولتها استغلال هذا الملف في المساومة على ملفات أخرى، لعل أهمها ما يلي:

1- محاولة “غلّ” اليد الأمريكية في الملف الليبي: فمن حيث إن الساحة الليبية أصبحت ممتدة لـ”المماحكات” السياسية بين روسيا وأمريكا، في ظل تمسك الأولى بعودة سيف الإسلام القذافي إلى الحياة السياسية، بل وحقه في الترشح للانتخابات الرئاسية؛ تبدو المحاولة الروسية في “غلّ” يد الولايات المتحدة في ليبيا قبيل التوجه إلى الاستحقاق الانتخابي المنتظر، لذا تطالب روسيا بخروج متزامن لـ”المرتزقة” والقوات الأجنبية من البلاد، رداً على الدعوات التي تريد إخراج عناصر “فاغنر” الروسية من البلاد.

إلا أن التحدي هنا يبدو عبر تجديد الولايات المتحدة، على لسان ريتشارد ميلز نائب المندوب الأمريكي، في إحاطة لمجلس الأمن، في نوفمبر الماضي، مطالبة السلطات الليبية بضرورة تسليم سيف القذافي إلى المحكمة الجنائية الدولية.

2- مواجهة خطة بايدن “العشرية” في ليبيا: إذ طرح الرئيس الأمريكي جو بايدن على الكونغرس مشروعاً في شأن ليبيا يمتد لعقد كامل، وهو المشروع الذي وإن كان يركز على ليبيا، فإنه يستهدف ثماني دول، منها خمس دول في غرب أفريقيا (بنين، ساحل العاج، غانا، غينيا، وتوغو)، إضافة إلى موزمبيق وبابوا غينيا الجديدة.

وهنا، يبدو التحدي في أن خطة بايدن “العشرية” تستهدف سعي واشنطن إلى ضمان مكاسب ومصالح استراتيجية لها ولحلفائها في القارة الأفريقية، بما يؤكد المحاولات الأمريكية في محاولة وقف التمدد الروسي، ومنع تحويل ليبيا إلى قاعدة انطلاق لموسكو لتنفيذ مشروعها في التوغل إلى العمق الأفريقي، بدليل استهداف المشروع الأمريكي لعدد من الدول الأفريقية إضافة إلى ليبيا.

3- السعي الروسي إلى كسر “العزلة” الدولية: إذ إن روسيا تدرك أن الهدف الأمريكي من الحرب الأوكرانية، ليس الهزيمة العسكرية المباشرة، بقدر ما هو وأد الطموح الروسي، ودفع روسيا إلى الانزواء داخل حدودها، لذا تسعى موسكو إلى كسر عزلتها الدولية ومواجهة الضغوط الغربية من خلال تنشيط دورها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأفريقيا عموماً.

وبجانب سوريا، ترغب روسيا، عبر البوابة الليبية، في ترسيخ دورها كلاعب إقليمي ودولي قوي في المنطقة، خاصة لما يسمح به موقع ليبيا من إطلالة جيواستراتيجية على أوروبا، في إمكانية المساومة الروسية على مصالحها، خاصة في مناطق جوارها القريب، من خلال نفوذها السياسي وتواجدها العسكري، واستغلال الخلافات الأوروبية، خصوصاً الفرنسية الإيطالية بشأن الملف الليبي.

4- مكافحة الجماعات الإرهابية العابرة للحدود الرخوة: حيث إن مكافحة التطرف الديني والجماعات الإرهابية يمثل بالنسبة إلى روسيا تحدياً كبيراً، بحكم أن نحو 20 مليون مواطن مسلم في الأراضي الروسية يتفاعلون ثقافياً ودينياً مع كل ما يجري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي هذا تتوافق روسيا مع قوى إقليمية في المنطقة، مثل مصر والإمارات والسعودية، على ضرورة محاصرة وتقليص دور هذه الجماعات، خاصة أن ليبيا بعد سقوط القذافي أصبحت ساحة ليس فقط لجماعات الإسلام السياسي، ولكن أيضاً لعدد من الجماعات الإرهابية كالقاعدة وداعش، وغيرها.

أرض الفرص

في هذا السياق، يُمكن القول إنه بينما يُركز الغرب على الحرب في أوكرانيا، تبحث روسيا عن نقاط ضعفه في باقي العالم، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوجه خاص. وفي هذه الحرب، الأخرى، تبرز ليبيا كـ”أرض الفرص” بالنسبة إلى صانع القرار الروسي، بما تعنيه من “أولوية سياسية” في إطار المواجهة مع الغرب. وكما يبدو، تنظر روسيا إلى الملف الليبي، والاستحقاق الانتخابي المرتقب، على أنه أحد الملفات التي يجب أن توليها الدولة اهتماماً خاصاً، بسبب حجم المصالح السياسية والاقتصادية، والاستراتيجية أيضاً؛ تلك التي تسعى روسيا إلى حمايتها وتعزيزها في القارة الأفريقية، عبر البوابة الليبية.