رغم حلول الذكرى الثالثة عشر لما يسمى بـ”ثورة 17 فبراير”، إلا أن الأزمة الليبية ما زالت تراوح مكانها، وقد بدا ذلك جلياً في تجدد الخلافات بين القوى السياسية الفاعلة في المشهد الليبي، والمبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي، بعد إعلان الأخير، في 15 فبراير الجاري، فشل مبادرته التي كان قد أطلقها في 23 نوفمبر الماضي، والتي تستهدف الوصول إلى العملية الانتخابية وتأسيس سلطة سياسية موحدة في البلاد.
فخلال إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن الدولي في 15 فبراير الجاري، أشار باتيلي إلى أن الأطراف الخمسة التي تم اختيارها “غير قادرة على التوصل إلى توافق وإحراز تقدم في العملية السياسية”، وأضاف: “إن الأطراف الفاعلة في البلاد غير مستعدة على ما يبدو لتسوية الخلافات المتبقية للتمهيد لإجراء الانتخابات”، وتابع: “إن التنافس فيما بينها وانعدام الثقة هو أساس هذه الأزمة التي طال أمدها”، وهو ما دفع القوى السياسية الليبية، وفي الصدارة منها الحكومة المكلفة من البرلمان برئاسة أسامة حماد إلى المطالبة بإبعاد المبعوث الأممي عبدالله باتيلي بعد اتهامه لها بعدم الاستعداد لتسوية خلافاتها.
حملات متبادلة
شهدت الفترة الأخيرة تصاعداً في حدة التصريحات والتصريحات المضادة بين باتيلي وبعض القوى السياسية، ووصل التوتر إلى الذروة بعد اتهام الأول للثانية بالوقوف وراء الأزمة الحالية؛ حيث انتقد بشكل مباشر رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، واتهمه بوضع العراقيل أمام المسار التفاوضي. كما استعرض باتيلي موقف رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة الذي “يُصر على أنه لن يتنحى عن منصبه الحالي إلا بعد إجراء الانتخابات، مما يعني أن حكومة الوحدة الوطنية التي يرأسها ستشرف على العملية الانتخابية المقبلة”.
على صعيد متصل، أعلن باتيلي عن رفض رئيس مجلس الدولة محمد تكالة القوانين الانتخابية التي أصدرها مجلس النواب، ومطالبته بالعودة إلى المسودة التي اتفق عليها أعضاء لجنة “6+6” في بوزنيقة المغربية. واعتبر باتيلي أن “توجهات تكالة ورؤيته الضيقة تعيق الوصول إلى تنظيم العملية الانتخابية المقبلة”، لا سيما وأن تكالة -بحسب باتيلي- يرى أن الاجتماع الخماسي “ينبغي أن يركز النقاش على تنقيح القوانين الانتخابية لإعادتها إلى ما يسميه النسخة الأولية من النص”، في حين لا يريد رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي أن يكون طرفاً بين تلك المؤسسات ويُبدي استعداده لممارسة دور “الميسّر” للاجتماع الخماسي.
على صعيدٍ متصل، لم تقتصر اتهامات باتيلي على الجماعات المحلية في الداخل الليبي، فقد وجه المبعوث الأممي انتقادات غير مباشرة إلى مواقف فرنسا، والاتحاد الأوروبي بشكل عام، عندما دعا من جديد إلى اتّباع نهج موحد ومنسّق من جانب كل أعضاء المجتمع الدولي حيال الأزمة الليبية.
في المقابل، تُشير العديد من التقديرات المحلية إلى أن أداء باتيلي اتسم طوال العامين الماضيين بالارتباك، وجاءت أطروحاته باهتة وغير حاسمة، وهو ما كشف عنه تغيير مواقفه من العملية الانتقالية أكثر من مرة، فضلاً عن عجز البعثة الأممية عن وضع خطة متكاملة لمعالجة الجمود السياسي.
كما اتهمت بعضُ القوى السياسية البعثةَ الأممية بالانحياز إلى بعض الأطراف على حساب أخرى، فضلاً عن عدم قدرتها على تحقيق اختراق في معالجة الانقسامات الداخلية.
سياقات مختلفة
على الرغم من إعلان باتيلي عن فشل تحركاته لحلحلة المشهد المأزوم في ليبيا؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة سياقات مختلفة تُشير إلى إمكانية تحقيق انفراجة في المشهد السياسي خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يُمكن بيانه على النحو التالي:
1- بناء توافق وطني جامع: أبدت القوى السياسية خلال الآونة الأخيرة استعدادها لتعزيز التوافق الوطني، واحتواء الخلافات البينية، وتجلى ذلك في إعلان المجلس الرئاسي، في 14 ديسمبر الماضي، الاتفاق على عقد المؤتمر الوطني الجامع للمصالحة الوطنية في منتصف أبريل المقبل بمدينة سرت، وأسفرت الاجتماعات التحضيرية للمؤتمر، والتي شارك فيها عدد كبير من ممثلي الأحزاب والتجمعات والشخصيات السياسية والقبلية، عن تحديد آلية تشكيل اللجنة التحضيرية لتنظيم المؤتمر، وتحديد اختصاصاتها، ونظامها الداخلي.
2- كثافة التحركات الدبلوماسية الأفريقية: إذ كان لافتاً انعقاد اجتماع اللجنة رفيعة المستوى لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقي حول ليبيا، خلال الفترة من 5 إلى 6 فبراير الجاري بالعاصمة الكونغولية برازافيل، والذي انتهى إلى التأكيد على دعم توحيد المؤسسات الوطنية، فضلاً عن مشاركتها في وضع اللمسات المطلوبة لإنجاز مؤتمر المصالحة الوطنية المقرر له أبريل المقبل، والذي يستهدف اعتماد رؤية استراتيجية وطنية للمصالحة تقوم على الملكية الوطنية.
3- الدعم الدولي لحل الأزمة: توازت التوترات الأخيرة بين باتيلي والقوى السياسية مع تحركات دولية لافتة باتجاه دعم العملية السياسية في ليبيا، وتجلّى ذلك في سعي فرنسا للقيام بدور أكثر نشاطاً في ليبيا، حيث أكد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون دعمه للمصالحة الوطنية الليبية، كما أبدت باريس في وقت سابق استعدادها لاستضافة مؤتمر ليبي يجمع القادة العسكريين من شرق وغرب البلاد، في محاولة لدعم الجهود الراهنة لتشكيل جيش ليبي موحد.
كما حظيت ليبيا باهتمام إيطالي غير مسبوق، وبدا ذلك في زيارة قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر إلى روما ولقائه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، في 4 مايو الماضي، حيث أبدت الأخيرة دعمَ بلادها لحالة الاستقرار السياسي في البلاد.
كما أكدت واشنطن على لسان نائب المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي روبرت وود، في 15 فبراير الجاري، أنها ملتزمة بدعم الاستقرار في ليبيا، وضمان تنفيذ حظر الأسلحة، وتقديم الخدمات للشعب الليبي، وقال وود في هذا الصدد إن الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد القادة الليبيين في الجهود التي يبذلونها بدعم من لجنة “5+5″، لأجل تنفيذ وقف إطلاق النار وانسحاب المرتزقة من البلاد، داعياً إلى شفافية توزيع موارد النفط وعدم توجيهها لمكاسب خاصة.
ختاماً، يمكن القول إن إعلان باتيلي خلال إحاطته الأخيرة في مجلس الأمن عن انسداد أفق الحل للأزمة الليبية بسبب تعنت الفرقاء الأساسيين في المشهد يوحي بأن الأزمة تواجه اختباراً صعباً في المرحلة الحالية. بيد أن التحولات الإقليمية الراهنة، وكثافة الجهود الخارجية لتقليص حدة الخلافات بين القوى السياسية المختلفة يمكن أن تمارس دوراً بارزاً في تعزيز فرص الوصول إلى تسوية سياسية في النهاية.