طرح العراق إعادة إحياء خطي أنابيب للنفط مع كل من السعودية وسوريا، والتشجيع على بدء العمل في خط أنابيب مقترح مع الأردن، بهدف تنويع منافذ تصديره للنفط بعد تجميد العمل بخط أنابيب النفط الممتد لتركيا، إلا أن ذلك الطرح يواجه بالعديد من التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية، ولكن في الوقت نفسه ألقى ذلك الضوء على بعض الأبعاد المرتبطة بتوجهات بعض دول الشرق الأوسط بشأن تجارة الطاقة مستقبلاً، منها تزايد الاهتمام بمنافذ تصدير الطاقة لمواكبة مخططات زيادة إنتاجها مستقبلاً، وضرورة استحداث شراكات رابحة لجميع الأطراف للاستفادة من تصدير النفط، مع احتمالية زيادة التوجه لأسواق دول الجنوب لإمدادهم بالنفط.
فقد أكد مستشار رئيس الوزراء العراقي للعلاقات الخارجية “فرهاد علاء الدين”، في تصريحات صحفية على هامش “منتدى قطر الاقتصادي” الذي عُقد خلال الفترة 23/25 مايو 2023، أن بغداد تسعى إلى إحياء خطوط أنابيب للنفط مع 3 دول عربية، موضحاً أن هناك مفاوضات لإعادة إحياء خط أنابيب مع السعودية الذي كان موجوداً في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وهناك تفكير في تفعيل خط أنابيب للنفط عبر سوريا، إلى جانب خط أنابيب “البصرة-العقبة” وهو قيد الدراسة من قبل المستشارين حالياً.
عقبات متزامنة
إن الطرح العراقي لإحياء خطوط الأنابيب مع دول الجوار، سواء تلك التي كانت قائمة بالفعل أو تلك المستهدف إنشاؤها، له العديد من الإيجابيات التي تتعلق بتعزيز المصالح المشتركة مع دول الجوار، بل وتعزيزها مع الدول المستوردة في حالة وجود إمدادات دائمة من النفط، إلا أن ذلك يواجه بعدد من التحديات، أهمها ما يلي
1- ضخامة الموارد المالية المخصصة لمشروعات خطوط الأنابيب: إذ إن تمويل بعض تلك المشروعات يتطلب ميزانية ضخمة، على رأسها خط “البصرة-العقبة” (انظر خريطة رقم 1)، التي تتجاوز تكلفة إنشائه 8 مليارات دولار (وفق المدير العام لشركة المشاريع النفطية العراقية “شاكر محمود” في أبريل 2022)، وبالرغم من أن تصاميم المشروع تتواجد منذ عام 2015، إلا أنه لم يتم تسليط الضوء عليه إلا في اجتماع القمة الثلاثية العراقية/ الأردنية/ المصرية التي عقدت في يونيو 2021، وحتى بعد ذلك لم يلقَ المشروع زخماً، وهو ما دلل عليه تأجيل حكومة “مصطفى الكاظمي” السابقة في أبريل 2022 طرحه للحكومة المقبلة.
وبالنسبة لخط أنابيب النفط العراقي السوري “كركوك-بانياس” (انظر خريطة 2)، فهو خط تم إغلاقه عدة مرات، حيث أدت الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003 إلى خروجه من الخدمة بسبب تضرره من الغارات الجوية، كما تعرضت أجزاء منه للتدمير بسبب الغارات الجوية الأمريكية على معاقل تنظيم داعش في العراق وسوريا. ووفق بعض التقديرات فإن إصلاح الخط يتطلب 4 مليارات دولار، مما دفع العراق للإشارة إلى أنه قد يتم إسناد عمليات إصلاح ما تم تخريبه في الأراضي العراقية إلى بغداد. وفي المقابل يتكفل الجانب السوري بإصلاح الأَضرار التي أصابت خط الأنابيب الموجود في أراضيه (وفق وزير التجارة العراقي “أثير الغريري” في مايو 2023).
أما بالنسبة لخط النفط العراقي السعودي IPSA (انظر خريطة 3)، الذي يربط الحقول العراقية بخط أنابيب “شرق-غرب” السعودي للوصول إلى البحر الأحمر، فإن موافقة المملكة عليه قد تشكل تضارباً مع مصالحها، سواء فيما يتعلق بعدم الرغبة في منافسة النفط العراقي لنفطها الذي يتم تصديره من البحر الأحمر، وكذا احتمالية حاجة المملكة لاستغلال القدرة القصوى من خط “شرق- غرب” مستقبلاً (تبلغ 5 ملايين برميل يومياً مع احتمالية زيادة قدرة الخط لـ7 ملايين برميل)، ولا سيما مع اتجاهها لتأمين خطوط تستوعب صادرات نفطها بعيداً عن مضيق هرمز، مع الأخذ في الاعتبار أن قدرة ميناء ينبع التصديرية تبلغ 3 ملايين برميل، مما يتطلب سعة تخزين كبيرة لاستيعاب النفط السعودي والعراقي معاً.
2- الضغوط الغربية المحتملة على إبرام الصفقات مع الحكومة السورية: إن تحرك بغداد لإعادة تأهيل خط النفط مع سوريا يرتطم بعقوبات أمريكية متشددة ترفض هذا الأمر، وخاصة “قانون قيصر” الذي يقضي بفرض عقوبات على أي جهات أو حكومات تقدم دعماً أو تشارك في معاملات وصفقات كبيرة مع الحكومة السورية، أو مع أي شركة أو وزارة مملوكة من قبل الحكومة السورية، مع التأكيد على فرض عقوبات على أي نوع من أنواع الدعم للمحافظة على إنتاج سوريا من النفط والغاز أو زيادته. وبالمثل، هناك عقوبات أوروبية تحظر التعامل مع قطاع النفط السوري، علاوةً على أن أعضاء في الكونجرس قد قدموا في مايو 2023 مقترحاً لتعديل قانون قيصر ليصبح أكثر تشدداً تجاه الدول العربية الساعية لعودة علاقاتها مع نظام “بشار الأسد”.
من جانب آخر، قد تضغط الدول الغربية على العراق لعدم تأهيل خط الأنابيب مع سوريا، نظراً للتخوف من أن تضطلع روسيا في ذلك المشروع عبر شركاتها، وهو ما يزيد من تواجدها في المنطقة، ولا سيما في قطاع الطاقة، لأنه بذلك سيجعلها متحكمة في صادرات النفط العراقية للدول الأوروبية عبر البحر المتوسط، مع الأخذ في الاعتبار أن شركة “روسنفط” الروسية تسيطر على 60% من خط أنابيب “كركوك-جيهان” مع تركيا (مجمد تصدير النفط من خلاله حالياً)، وهو الذي يمكن استغلاله مستقبلاً للضغط على الدول الأوروبية.
3- التعرض لعمليات تخريبية من قبل المليشيات المسلحة: حيث إن مسارات أنابيب النفط في الأراضي العراقية قد يعرضها لعمليات تخريبية، ونفس الأمر لخط الأنابيب الواقع في سوريا. وبالنسبة للسعودية فاحتمالية تفعيل ربط أنابيب العراق بخط “شرق-غرب” قد يعرضه لهجمات أسوة بتلك التي قامت بها جماعة الحوثيين في مايو 2019 مما أسفر عن توقفه مؤقتاً. وبالتالي، يُرى أن طرح تلك المشروعات في ظل حالة عدم الاستقرار الأمني حالياً تشكل مخاطرة غير محسوبة على الاستثمارات الكبيرة التي سيتم دفعها لإحياء خطوط أنابيب النفط بين العراق ودول جوارها.
أبعاد مستحدثة
يطرح المسعى العراقي لتفعيل خطوط الأنابيب مع دول جوارها العديد من الأبعاد التي يمكن أن تسهم في فهم واستشراف طبيعة العلاقات المبنية على قطاع الطاقة في المنطقة مستقبلاً، وذلك على النحو التالي:
1- تزايد أهمية منافذ تصدير الطاقة: من الواضح أن تضارب المصالح بين دول المنطقة في استغلال مواردها الطبيعية، خاصة من النفط والغاز، تجاوز أطر المنافسة التقليدية من مجرد استخراج تلك الموارد وإيجاد أسواق لها إلى ضرورة إيجاد طرق بديلة ورخيصة نسبياً لتصديرها، ولا سيما في ضوء وجود مشاريع لزيادة إنتاج النفط الخام من الدول المصدرة بالمنطقة خلال السنوات المقبلة (انظر الجدول التالي)، لأن توقف منافذ التصدير المحدودة حالياً قد يؤدي لهدر تلك الموارد التي تمثل ركيزة أساسية في دعم اقتصادات بعض بلدان المنطقة.
تُشير البيانات السابقة إلى وجود توجهات بزيادة إنتاج النفط من الـ5 دول بنحو 40% خلال الـ4 سنوات المقبلة، مما يدفع بضرورة زيادة قدرات البنية التحتية الحالية، وكذا استحداث وتنويع منافذ التصدير للوصول لأسواق جديدة (سواء أنابيب نفط، أو موانئ، أو حتى شركات الشحن البحري)، مما يُشير إلى أن تلك المنافذ ستزداد أهميتها خلال الفترة المقبلة، وقد يتم توظيفها كأداة سياسية لتحقيق مصالح محددة، أو حتى للضغط في حالة حدوث توتر بين الدول التي تجعل أراضيها ممرات عبور لأنابيب نقل النفط والغاز الطبيعي، ولعل النموذج التركي الرافض لمرور خط أنابيب غاز “إيست ميد” (من إسرائيل لقبرص واليونان وإيطاليا) بحجة أنه سيخترق مياهها الإقليمية نموذج على هذا التوجه المستقبلي.
2- تعزيز الشراكات الرابحة لضمان تصدير النفط: إن قبول الدخول في مشروعات أنابيب ضخمة عابرة للحدود ذات تكلفة استثمارية مرتفعة، لا يتم إلا بين الدول التي تشهد تنامياً في علاقاتها، واستقراراً في استراتيجيتها، بحيث لا تأتي حكومة أو نظام سياسي جديد يهدد العمل في تلك المشاريع، وبالتالي فإن إقبال العراق على بناء أنبوب جديد للنفط عبر الأردن ومحاولة إصلاح أو حتى إنشاء خط أنابيب جديد مع سوريا يستلزم وجود أرضية صلبة لذلك النوع من التعاون، مع تجاوز أي خلافات تاريخية، وألا يكون ذلك الخط هو نمط التعاون الوحيد بينهما، بل لا بد من وجود مجالات أخرى للتعاون في العديد من القطاعات لتعزيز الثقة للدخول في مشاريع عملاقة. ويُشار في هذا الصدد إلى أن العلاقات العراقية/ الأردنية آخذة في التنامي، وهو ما دلل عليه مؤخراً الإعلان عن بدء الربط الكهربائي بين البلدين بدءاً من يوليو 2023، وبما يؤهل مستقبلاً لتنفيذ خط “البصرة-العقبة” في حالة توفر التمويل اللازم.
3- التوجّه لأسواق دول الجنوب لتصدير مصادر الطاقة: إن المعوقات التي تواجهها دولة مثل العراق في تصدير نفطها، سواء عبر التعرض للمخاطر الناشئة عن نقل النفط عبر السفن، وعدم وجود خطوط أنابيب نفط متنوعة وبطاقات استيعابية كبيرة تؤهلها للتصدير للعديد من الدول، إضافة إلى أبعاد أخرى تتعلق بتوجه الدول الأوروبية لتقليص الاعتماد على النفط لتحقيق هدف صفر انبعاثات كربونية في عام 2050، قد يدفع بغداد لمحاولة فتح أسواق جديدة لاستيعاب صادرات نفطها المتوقعة خلال السنوات المقبلة، وقد يكون ذلك باتجاه دول الجنوب، خاصة الأفريقية. علماً بأنه في عام 2021 جاءت وجهات صادرات النفط العراقي الخام على النحو التالي:
إن احتمالية توجه العراق لتصدير النفط لدول أفريقيا يرجع لعدة أسباب، على رأسها التصدير لأسواق قريبة نسبياً في مواجهة التحديات المرتبطة بتصدير النفط للدول الأوروبية، كما أن تلك الدول قد لا تشهد طفرة سريعة في استخدام الطاقة المتجددة أسوة بالدول الغربية، نظراً لعدم وجود التكنولوجيا والخبرات والموارد المالية اللازمة لتحقيق تلك الطفرة.
مصالح مشتركة
في الختام، يسعى العراق للانفتاح بشكل أكبر على محيطه الإقليمي، ويرى النظام الحالي أن الدخول في مشاريع عملاقة مشتركة، مثل “طريق التنمية” الذي أعلنت عنه بغداد مؤخراً، سيكون الطريق الأقصر لتحقيق ذلك الهدف، وفي السياق ذاته يأتي التحرك لإحياء تدفقات النفط العراقي عبر الأنابيب الممتدة مع دول الجوار، أو إنشاء خطوط جديدة؛ إلا أن هذا الطرح في ذلك التوقيت قد لا يُشكل أولوية لدول الجوار في الوقت الراهن ولا سيما مع المخاطر والتحديات المرتبطة بتلك الأنابيب، وبالتالي لا يستبعد أن يبدأ العراق مفاوضات جادة مع كل من السعودية والأردن وسوريا بشأن تلك الأنابيب، لإقناعهم بما يمكن أن تسهم به في تعزيز المصالح المشتركة، مع تقديم مقترحات لتعظيم استفادة تلك الدول من تلك الأنابيب (عبر رسوم مرور مرتفعة، حصة من النفط الذي سيمر عبر الأنابيب..)، أو الحصول على مكاسب في ملفات أخرى ذات أولوية لتلك الدول.