التكتلات السائلة:
أبعاد أزمة التحالفات السياسية في دول المنطقة (ملف خاص)

التكتلات السائلة:

أبعاد أزمة التحالفات السياسية في دول المنطقة (ملف خاص)



تكاد تكون حالة السيولة التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني “زيجمونت باومان” في نقده للحداثة وتأثيراتها على حياة المجتمعات والأفراد، هي النموذج الأهم لتفسير ما يجري للتحالفات السياسية القائمة في دول الشرق الأوسط. فخلال السنوات الماضية حدث توسع كبير في ظاهرة التحالفات السائلة Liquid alliances، بحيث لم يعد من الممكن الحديث بدرجة من اليقين والأريحية التي اعتادها البعض في تفسيره للأحداث بالمنطقة، عن تحالفات سياسية مسلّم بها، وبات من الصعب الحديث عن غلبة “الكتل الصلبة” في العلاقات بين الفاعلين السياسيين. وفي المقابل، أصبح من الشائع تشكيل تحالفات لا تقوم على الهوية المشتركة أو المشروع المشترك، ولكن على الخوف، ناهيك عن انتشار التحالفات المؤقتة التي تقتصر على قضايا فردية. كما أن المنافسة السياسية تصبح سائلة أيضاً فيتحد الفاعلون الذين هم على خلاف تقليدياً لمواجهة تهديدات محددة دون الاعتراف ببعضهم بعضاً كحلفاء.

لقد ارتهنت ظاهرة سيولة التحالفات في المنطقة بعددٍ من التحولات، فعلى امتداد دول المنطقة تزايدت الخلافات بين العديد من القوى السياسية، على غرار تلك الموجودة في العراق ولبنان والمغرب وتونس وكذلك السودان مؤخراً. وكان مرد هذه الخلافات إلى التنافس على السلطة، والتنازع حول طريقة إدارة التفاعلات السياسية، ناهيك عن تراجع أهمية الطابع “الأيديولوجي” كمحدد رئيسي في التحالفات السياسية بالمنطقة، وتزايد حضور النزعة البراجماتية، سواء على مستوى العلاقات الإقليمية أو حتى على المستوى الداخلي.

محفزات رئيسية

ترتبط أزمة التحالفات السياسية في المنطقة بعدد من المحفزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- معضلة تيار الإسلام السياسي: حيث كانت ظاهرة التحالفات المأزومة أكثر بروزاً في نطاق تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، ففي خضم الأزمات التي واجهتها حركة النهضة التونسية، تنامت الانشقاقات الداخلية، واستقال عدد من القيادات من الحركة مثل عبدالحميد الجلاصي، أحد أبرز القيادات التاريخية في حركة النهضة، وآمنة الدريدي، ولطفي زيتون الذي كان المستشار السياسي السابق لراشد الغنوشي، وأحد المقربين منه.

كما شهدت جماعة الإخوان في ليبيا انشقاقات عديدة خلال السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، أعلنت قيادات الجماعة في مدينة الزاوية، في أغسطس 2020، استقالتها الجماعية وحل فرع التنظيم في المدينة. وفي أكتوبر من العام ذاته، أعلن فرع مصراتة حل نفسه، وإقفال مكاتبه. وفي شهر يوليو الماضي، قدم عدد من القيادات التنفيذية في حزب العدالة والبناء (الذراع السياسية لجماعة الإخوان في ليبيا) استقالاتهم. وتكرر هذا المشهد مع حزب العدالة والتنمية المغربي؛ إذ تعرض الحزب لموجات من الاستقالات، مثل تلك التي جرت في شهر أغسطس 2021، إذ تقدّم أكثر من أربعين عضواً في الحزب باستقالاتهم، ومن بينهم مستشارون جماعيون وقياديون بالاتحاد الوطني للشغل، ووجوه فاعلة في حركة التوحيد والإصلاح (الذراع الدعوية للحزب).

2- نتائج الاستحقاقات السياسية: فقد شكّلت الانتخابات في المنطقة ونتائجها أداة ضاغطة على التحالفات السياسية في المنطقة، وأفضت إلى المزيد من الانشقاقات داخل القوى السياسية. فعلى سبيل المثال، كانت الانتخابات التشريعية الأخيرة في المغرب، سبتمبر 2021، لحظة كاشفة لحزب العدالة والتنمية، حيث تعرض الحزب، المعبر عن تيار الإسلام السياسي في المغرب، لهزيمة كبيرة، وحصل على 13 مقعدًا فقط بعدما كان حاصلاً على 125 في الانتخابات السابقة عام 2016. وسرعان ما أفضت هذه النتائج إلى موجة جديدة من الانشقاقات داخل الحزب، لا سيما مع إعلان الأمانة العامة للحزب تقديمَ أعضائها، وعلى رأسهم الأمين العام سعد الدين العثماني، استقالاتهم.

3- الخلافات حول إدارة الدولة: وهو نمط تزايد حضوره في السنوات الماضية لا سيما مع تصاعد تشكيل الحكومات الائتلافية في دول الإقليم، والخلافات حول مسار تكوينها. وظهر ذلك الأمر مثلاً في الانتقادات الحادة التي وجهها نائب رئيس الحكومة الليبية “حسين القطراني” لرئيس الوزراء “عبدالحميد الدبيبة”، في 10 أكتوبر 2021، إذ اتهمه بالاستحواذ على السلطة والتعدي على صلاحيات الوزراء والتفرد بالقرارات، وقد جاء ذلك في اجتماع طارئ بمدينة بنغازي، حضره إلى جانب القطراني وزراء ووكلاء الحكومة في إقليم برقة وعمداء البلديات. ويضاف إلى هذه الاتهامات الانتقادات التي تواجهها حكومة الدبيبة، ولا سيما فيما يتعلق بفشلها في تنفيذ المشاريع التي تعهدت بحلها، وعلى رأسها تحسين الخدمات العامة لليبيين، وتوحيد المؤسسات، وتنظيم الانتخابات، ومحاربة إهدار المال العام.

4- تنافسات القيادة: وهو أمر يظهر تأثيره في التحالفات المكونة من قوى متقاربة فكرياً ومذهبياً، وبالتالي تخاطب نفس الشريحة الجماهيرية والأتباع. وتجلت مؤشرات هذا الصراع في العلاقة بين حزب الله وحركة أمل، صحيح أن هناك تحالفاً تاريخياً يجمع بينهما كممثلَيْن للشيعة في لبنان، ويصعب القول إن ثمة تفككاً ممكناً في تحالفهما على أقل تقدير في المدى القصير، غير أن هذا التحالف لم يمنع ديناميات التنافس بينهما على زعامة الطائفة الشيعية، حيث حاول حزب الله في السنوات الماضية توسيع سيطرته ونفوذه في مناطق تواجد ونفوذ حركة أمل التاريخية، وذلك عبر عدد من الأدوات في مقدمتها المساعدات المالية والغذائية. ففيما كان حزب الله يتوسع في تقديم المساعدات، بدأت حركة أمل تنظر إلى هذه السياسة باعتبارها مزايدة من جانب الحزب للسيطرة على الشارع الشيعي.

5- معضلة الثقة: والتي ظهرت بصورة كبيرة في الحالة السودانية مؤخراً عقب تزايد الخلافات بين المكونين المدني والعسكري للسلطة، وتحميل كل طرف منهما الطرف الآخر مسؤولية الأزمات المتتالية في السودان، حيث تسارعت وتيرة الأحداث في السودان بعد إعلان رئيس مجلس السيادة في السودان الفريق أول “عبدالفتاح البرهان”، يوم 25 أكتوبر 2021، حالة الطوارئ في مختلف أنحاء البلاد، وحل مجلسي السيادة والوزراء، وتجميد عمل لجنة التمكين، وتكليف المديرين العامين بالوزارات بتسيير الأعمال. كما أعلن تعليق بعض المواد في الوثيقة الدستورية، على الرغم من تأكيدها الالتزام بمعظم موادها، والتمسك باتفاق جوبا للسلام، وهي الإجراءات التي صاحبت تحركات من الجيش للسيطرة على الشارع، وكذلك اعتقال رئيس الحكومة “عبدالله حمدوك” وعدد من وزراء الحكومة وقيادات من قوى “إعلان الحرية والتغيير”.

صحيحٌ أن أغلب هذه الإجراءات تم التراجع عنها في ظل الضغوط الخارجية على رئيس مجلس السيادة السوداني، وكذلك الاحتجاجات التي خرجت في شوارع السودان لرفض الإجراءات؛ إلا أنه من الصعب القول إن معضلة الثقة بين المكونين المدني والعسكري قد تم تجاوزها، لأن محفزاتها الداخلية لا تزال قائمة.

6- تراجع التهديد الإرهابي: ثمة تحالفات بدول المنطقة تكونت ليس على أساس مشروع سياسي مشترك، وإنما لمواجهة تهديدات أمنية وإرهابية معينة، وخصوصاً مع بزوغ تنظيم داعش في السنوات الماضية. ولعل النموذج الأبرز على ذلك، تحالف الحشد الشعبي في العراق الذي ظهر بصورة رئيسية لمواجهة تهديد تنظيم داعش، ولكن مع هزيمة التنظيم وفقدانه الأراضي التي كان يسيطر عليها؛ بدأت ملامح التفكك والتأزم تتسرب إلى الحشد الشعبي لينقسم إلى حشد العتبات والحشد الولائي. وعمق من حالة الانقسام إعلان السلطة العراقية عن آليات للدمج العسكري لعناصر الحشد في مؤسسات الدولة، ففي المؤتمر الأول لحشد العتبات، المنعقد شهر ديسمبر 2020، أكدت فصائل الحشد على الالتزام الكامل بالقانون والدستور العراقي، وطالب الحشد رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” بتطبيق قرار ارتباط حشد العتبات بالقائد العام للقوات المسلحة، بدلاً من هيئة الحشد الشعبي، بحسب الأمر الديواني الصادر عن رئيس مجلس الوزراء السابق “عادل عبدالمهدي”، وإتمام الخطوات اللازمة للدمج.

7- تأثيرات الانسحاب الأمريكي من المنطقة: ربما يكون للانسحاب الأمريكي من المنطقة تأثيرات ممتدة على التحالفات السياسية داخل دول المنطقة، وذلك في ضوء الترابط بين المعطيات الخارجية والداخلية في المشهد السياسي. فالانسحاب الأمريكي يحتمل أن يدفع عددًا من القوى الإقليمية المتنافسة والمتصارعة إلى فتح قنوات للتواصل والتهدئة فيما بينها، وهو أمر سينعكس -بشكل أو بآخر- على التحالفات السياسية الداخلية في دول المنطقة في صورة تفكيك تحالفات قائمة، وتصاعد صراعات بين قوى سياسية، أو حتى تشكيل أنماط من تحالفات الضرورة التي تتماشى مع التحولات الإقليمية الراهنة.

وتأسيساً على ما سبق، يُناقش هذا الملف، الذي يضم تحليلات وتقديرات مركز العالم العربي وفريق موقع الحائط العربي، أبعاد أزمة التحالفات السياسية بدول المنطقة، وتأثيراتها على المشهد السياسي القائم.