كلما أقبلت علينا نسائم أكتوبر تذكّرنا تلك الحرب الظافرة التي استعدنا بها كرامة المواطن، وكبرياء الوطن، ولا أزال أتذكر تلك الأيام من عام 1973 حيث كان الأفق ملبداً بالسحب، ومحاطاً بالغموض. ورغم حرب الاستنزاف الظافرة إلا أن الشعور العام كان يوحي باستمرار حالة اللاسلم واللاحرب، وانعدام القدرة على التحرك باسترداد الأرض واستعادة الشرف، حتى وصل الأمر بالبعض إلى التندّر على الرئيس الراحل أنور السادات، مستخدمين عبارات قالها عن الضباب والحرب الهندية الباكستانية كمبررات لتأجيل العمل العسكري الموعود، وقد ارتفع السادات وقتها عن تلك الصغائر، وهو يبيّت النيّة لعمل عسكري شامل في شهر رمضان من ذلك العام.
ولا أزال أتذكّر أنني كنت وقتها دبلوماسياً في السفارة المصرية بلندن، ولكنني وصلت إلى القاهرة لقضاء إجازة نصف المدة قبل اندلاع الحرب بأيام عدة، وبينما كنت أمضي في أحد الشوارع القديمة للقاهرة الكبيرة، إذا بي أسمع من الإذاعة أن قواتنا المسلحة تصد هجوماً، وتبدأ آخر، وأن اليد العليا هي لقواتنا الباسلة التي عبرت قناة السويس وبدأت باشتباكات مع قوات الاحتلال الإسرائيلي شرقي القناة. ولابد أن أعترف بأني شعرت حينها بقلق شديد لأنني كنت أريد أن تتمتع تلك الأخبار بمصداقية تختلف عن تلك التي شهدناها في بيانات حرب الأيام الستة (يونيو/ حزيران 1967)، ولكن عندما اكتشفت أن الإذاعات الأجنبية، وحتى المعادية، تردد الأخبار نفسها، مثل إذاعتي القاهرة وصوت العرب آمنت بأننا أمام بداية انتصار حقيقي في حرب يثأر فيها المصريون لشهدائهم وأرضهم ومستقبل أبنائهم.
وقد تمكنت القوات المصرية الظافرة من احتلال مواقعها على الضفة الأخرى بعد تحطيم خط بارليف بخراطيم المياه والعبور بالقوارب العسكرية إلى شرقي القناة في مشهد مهيب سوف يظل راسخاً في الوجدان العربي والمصري لا يبرحه أبداً، لأنه كان تعبيراً عن الانتصار الذي انتظره الشعب المصري بعد أن أقام حائط الصواريخ، واستمر مترقباً تلك اللحظات بفارغ الصبر، وبدأ العالم كله ينظر إلينا وينقل عنا في ثقة واحترام، وظهر السادات يلقي خطاب النصر أمام البرلمان المصري، بل ويطور المعارك الحربية مساندةً للأشقاء رفاق الحرب والنصر في سوريا الصامدة، وظللت محتجزاً في أرض الوطن أتابع تفاصيل الانتصار يوماً بيوم، بل ساعة بساعة، حتى أخذت أنا وأسرتي أول طائرة لمصر للطيران خرجت من مطار القاهرة إلى مطار هيثرو، والتقيت زملائي في السفارة الذين يسألون عن أحوال الوطن، ومدى صدقية ما جرى مع شعور عظيم بالتحول الكبير لمكانتنا في أعين الآخرين.
وبدأت، في أعقاب تلك الحرب، مواجهة أخرى بحظر تصدير البترول للدول المؤيدة لإسرائيل في سابقة لم يعرفها العالم الغربي من قبل، وظهر تعبير الداهية هنري كيسنجر قائلاً Food for crude (الطعام مقابل البترول)، وبلغ التضامن العربي قمته بالتقاء الملك فيصل عاهل السعودية الراحل، مع الرئيس المصري، وزيارة جبهة القتال كأنما كانا يشمّان رائحة النصر العزيز الذي انتظرناه طويلاً، ويهمني في هذه الذكرى الثامنة والأربعين لتلك الأيام الخالدة في تاريخنا الحديث أن أسجل الملاحظات الآتية:
*أولاً: إن الشعب المصري قد التحم بجيشه الظافر في ملحمة رائعة لا نكاد نجد لها نظيراً قبل ذلك في تاريخنا القومي، لقد اختفت الجرائم الجنائية تقريباً، ولم تحدث اختناقات تموينية أيضاً، ذلك أن المواطن العادي كان يشعر في ذلك الوقت بأن العبور العظيم هو تحوّل كبير في كيانه وأسلوب حياته، بل وسلوكه العام، بعد أن تخلص من عار الهزيمة وذاق حلاوة النصر.
*ثانياً: لم يعرف التضامن العربي مناسبة اجتمعت فيها كلمة العرب على النحو الذي شهدناه أثناء تلك الحرب، وفي أعقابها، لقد تزاوجت القدرة العسكرية مع الثروة العربية في مشهد بديع افتقدناه كثيراً بعد ذلك.
*ثالثاً: إن العسكرية المصرية تذكر دائماً من حاربوا في تلك الأيام، أو شاركوا في حرب الاستنزاف قبلها، أوتمهيداً لها، من أمثال الشهيد العظيم عبد المنعم رياض، والقائد العسكري الذي جمع شتات الجيش المصري في أعقاب الهزيمة وأعني به الفريق أول الراحل محمد فوزي بصرامته وانضباطه وبعد رؤيته، والمشير أحمد إسماعيل بحكمته وخبرته العسكرية في قيادة الجيش قبل المعركة، وأثناءها، وبعدها، ونتذكر أيضاً الفريق سعد الدين الشاذلي الذي سوف يظل أيقونة في تاريخ العسكرية المصرية، كما نذكر أيضاً الفريق حسني مبارك الذي ارتبط اسمه بالضربة الجوية الأولى قائداً للطيران سيد المعركة في ذلك الوقت، والمشير (فخري) محمد علي فهمي الذي قاد الدفاع الجوي في أحلك الظروف وأصعب اللحظات.
أما القائد الأعلى أنور السادات فقد وضع اسمه في التاريخ المصري بأحرف من نور امتداداً لزعامة جمال عبد الناصر الذي مات صامداً شجاعاً واقفاً، ومواصلاً حرب الاستنزاف في بسالة وجسارة شهد بهما كل من عاصر تلك الفترة، وفوق هؤلاء جميعاً الشعب المصري الباسل في شدوان، ورأس العش، وبحر البقر، وغيرها من التضحيات الغالية التي دفع فاتورتها المصريون، ومن ورائهم شعب عربي حاربت قواته جنباً إلى جنب مع المصريين في اشتباكات القناة والعمليات العسكرية للحرب في 1973.
إن روح أكتوبر المجيدة يجب أن تتجدد في أعماقنا، وأن تصبح دائماً أسلوب حياة، وحافزاً للهمم من أجل بناء مصر الحديثة، وتشييد الجمهورية المدنية العصرية الجديدة.
نقلا عن الخليج