رؤى متباينة:
هل تُمثّل الانتخابات المبكرة حلاً لأزمة العراق؟

رؤى متباينة:

هل تُمثّل الانتخابات المبكرة حلاً لأزمة العراق؟



تتمثل أهم المتغيرات التي تدفع في اتجاه إجراء انتخابات مبكرة في تصاعد حدة المواجهات المسلحة ووصولها إلى مرحلة غير مسبوقة، فضلاً عن اتساع نطاق الاستياء الشعبي من النخبة الحاكمة المسيطرة على مؤسسات صنع القرار، إلى جانب وجود عقبات عديدة تحول دون الوصول إلى توافقات بين القوى السياسية المختلفة.

بعد ساعات من انتهاء الاشتباكات الدامية التي وقعت في المنطقة الخضراء ببغداد، يومى 28 و29 أغسطس الفائت، دعا الرئيس العراقي برهم صالح، في خطاب متلفز، إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، من دون أن يُحدد موعداً لها؛ مؤكداً أن “إجراء انتخابات جديدة مُبكرة، وفق تفاهم وطني، يُمثل مخرجاً للأزمة الخانقة في البلاد، عوضاً عن السجال السياسي، أو التصادم والتناحر”. وجاءت دعوة صالح بعد المواجهات التي وقعت بين “سرايا السلام” التابعة لمقتدى الصدر، وفصائل من الحشد الشعبي موالية لإيران، وتشكل جزءاً من القوات الرسمية العراقية.

ولم يكتفِ برهم صالح بالدعوة إلى الانتخابات، كحل لانفراج الأزمة، بل أشار في خطابه إلى أن بلاده “بحاجة إلى إصلاحات جذرية عاجلة في منظومة الحكم”؛ لافتاً إلى أن “الانتخابات الأخيرة لم تحقق تطلعات العراقيين في إنجاز إصلاح حقيقي”، مُعتبراً أن الوضع الحالي “لم يعد مقبولاً”.

دوافع رئيسية

لعل التسليم بالأزمة الحالية، من جانب الأطراف السياسية العراقية، لا يعني سوى ضياع عدد من المكتسبات التي حصلت عليها حكومة مصطفى الكاظمي، بعودة العراق إلى التفاعل الدولي، وتعزيز دوره وحضوره في الفضاء الإقليمي، بعد عزلة دامت لسنوات طوال.

ومن ثم فإن هناك عدداً من العوامل التي تنبني عليها دعوة الرئيس العراقي بخصوص الخروج من الأزمة الحالية عبر “الانتخابات”، وتدفعها كحل إلى الواجهة، أهمها ما يلي:

1- النزاع المسلح والاختلاف في المشهد العراقي: بعد نزول أنصار زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، إلى الشوارع في حالة من الغضب إثر إعلان الرجل اعتزاله الحياة السياسية، شهدت بغداد ليلة دامية استخدمت فيها أسلحة آلية وقذائف صاروخية، مما أسفر عن سقوط عشرات من القتلى والجرحى. ومن الواضح أن مشهد الأزمة السياسية المستمرة طوال أحد عشر شهراً، سيكون مختلفاً عقب هذه الليلة الدامية عما كان عليه الحال قبلها. إذ يبدو أن “خطاب السلام” الذي أراد من خلاله الصدر محاولة “إحراج” الخصوم السياسيين أمام جموع العراقيين، سوف يساهم في دفع الأطراف السياسية إلى تقديم قدر ما من التنازلات، يمكن أن تدفع إلى انتخابات مبكرة.

فمع انتهاء الاقتتال المسلح، واحتواء النزاع في بداياته، فيما بين القوى الشيعية، تكون الفرصة قد تهيأت لتوصل أطراف الأزمة السياسية في العراق إلى حلول وسط، بما يحقق القبول لدى الشارع العراقي، الذي يطالب بتغيير قواعد السلطة.

2- الاستياء الشعبي الواسع وضرورة التغيير: إن حالة النزاع المسلح بين الأطراف السياسية، هي حالة غريبة على العراق، الذي تعودت فيه هذه الأطراف على عدم الزج بالبلاد نحو مغامرات غير محسوبة، رغم أنها تقدم حسابات المكسب على الخسارة. هذه الحالة الغريبة على الجسد السياسي العراقي، ما هي إلا تعبير واضح عن وضع بالغ التعقيد في العراق؛ وهو ما يدفع إلى ضرورة التغيير، خاصة في ظل الاستياء الشعبي الواسع من قبل جموع العراقيين، إزاء الطبقات السياسية التي حكمت البلاد لسنوات، والتي تسببت في استمرار الأزمة طوال الأشهر الماضية.

فرغم المبادرات والتدخلات لحل الأزمة، إلا أنها بقيت تراوح مكانها طوال هذه الفترة، وتحول الخلاف من آلية تشكيل حكومة ائتلافية كما يرى الإطار التنسيقي، أو أغلبية وطنية كما يرى الصدريون، إلى حصره وتحديده في حل البرلمان وإجراء الانتخابات.

3- صعوبة تحقيق انفراجة في الأزمة السياسية: مع أن دعوة مقتدى الصدر لأنصاره بوقف الاحتجاجات، وما أعقبها من الانسحاب من المنطقة الخضراء في بغداد، بعد أن أمهلهم زعيمهم 60 دقيقة، لاقت إشادة محلية وترحيباً دولياً؛ إلا أن الاحتمال الأقرب أن نجاح الخطوة في التهدئة يُعد آنياً، فيما يحافظ المشهد العام على صعوبة تحقيق الخروج من الأزمة، في إطار تعقيدات الوضع الحالي.

واللافت كما يرى كثيرٌ من المتابعين للشأن العراقي، هو عدم امتلاك الأطراف السياسية في العراق لأي حلول للخروج من الأزمة، مما يدفع إلى القبول بأقل التسويات سوءاً، ومن ذلك العودة إلى “المربع الأول” الذي تمثل في مفاوضات ما بعد انتخابات أكتوبر 2021، وتشكيل حكومة ولو مؤقتة، أو الاتفاق على انتخابات جديدة مبكرة.

4- انخرط مرجعية قم في الصراع الحالي: وهو ما يبدو جلياً في دعوة كاظم الحائري- الذي أعلن اعتزاله كمرجع ديني- أنصار التيار الصدري إلى الامتثال لمرجعية المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، موجهاً انتقادات قوية للصدر، ومحملاً إياه مسئولية تعطيل العملية السياسية. وقد أشارت اتجاهات عديدة إلى أن إيران ربما لا تكون بعيدة عن هذا الانخراط المفاجئ، في ظل مساعيها لتحجيم نفوذ الصدر.

احتمالات مفتوحة

في إطار العوامل التي تدفع الانتخابات المبكرة إلى الواجهة، خصوصاً مع دعوة الرئيس العراقي إليها، كحل للخروج من الأزمة السياسية؛ يبدو أن عدة احتمالات تظهر في الأفق، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- استمرار التباين حول تشكيل الحكومة: رغم اتفاق الجانبين- التيار الصدري والإطار التنسيقي- حول إجراء انتخابات مبكرة؛ إلا أن مطلب الانتخابات أصبح عُقدة الخلاف بينهما فيما يخص إجراءها قبل تشكيل حكومة جديدة، والقانون الذي ستُجرى على أساسه، وتوقيت حل البرلمان بعد أو قبل تشكيل الحكومة.

فمن جانب، يرى الصدر أن حل البرلمان هو القرار الأنسب، واتخذ خطوات لذلك، بدأت بانسحاب نواب الكتلة الصدرية (73 نائباً) من البرلمان، في يونيو الماضي، بعد فشله في تشكيل الحكومة، وتدفق أنصار التيار الصدري للاعتصام داخل وحول البرلمان، ووصلت إلى إصدار الصدر بياناً لمجلس القضاء الأعلى يطالبه بحل البرلمان، وهو ما رد عليه المجلس بأنه ليس من صلاحياته. ومن جانب آخر، يطالب الإطار التنسيقي- الذي يضم بقية الكتل والأحزاب الشيعية، التي جاءت بعد الكتلة الصدرية في انتخابات أكتوبر الماضي- بتشكيل حكومة جديدة يرأسها محمد شياع السوداني، تحت قبة البرلمان الحالي، الذي صارت لها فيه الأكثرية، بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية.

2- إشكالية تشكيل حكومة في غياب الصدر: بدأ خلاف الجانبين (التيار والإطار) فور إعلان نتائج انتخابات أكتوبر وتصدر التيار لنتائجها، مما هدّد بتراجع نفوذ القوى الموالية لإيران. ومع سعي الصدر لتشكيل حكومة “أغلبية وطنية”، في ابتعاد نسبي عن المحاصصة، ومع إصرار الإطار -في الوقت نفسه- على “حكومة توافقية” تحفظ نفوذه؛ تزايد الخلاف بينهما، وفشل كل طرف في الوصول إلى ما يريد، وتحول الخلاف إلى مظاهرات ومظاهرات مضادة في شوارع بغداد والعراق عموماً.

إلا أن امتلاك الأكثرية النيابية ربما يدفع الإطار التنسيقي إلى محاولة عقد جلسة لمجلس النواب، لأجل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتكليف محمد شياع السوداني، خاصة وأن الإطار قد تعامل مع الأزمة الحالية على أنها انتصار له، وفرصة سانحة لتشكيل الحكومة. لكن هذا الاحتمال تعوقه معضلة نصاب الجلسة، ومدى إمكانية السماح بعقدها.

فإضافة إلى صعوبة موافقة الصدر، وأنصار التيار الصدري، على انعقاد مثل هذه الجلسة؛ تأتي الإشكالية الخاصة بعملية تشكيل الحكومة، التي تحتاج إلى تجاوز معضلة “النصاب” في جلسة رئيس الجمهورية؛ وهي الخطوة التي لن تتحقق إلا من خلال توافق “كردي – كردي”، مع قبول تحالف السيادة حضور الجلسة. وهنا، تتضح الإشكالية أكثر، حيث إن كلاً من الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف السيادة، هما حليفا الصدر، وسبق أن أعلنا عدم حضورهما الجلسة من دون التوافق مع الأخير.

3- الاختلاف حول الآلية المطلوبة لحل البرلمان: رغم اتفاق التيار الصدري وقوى الإطار التنسيقي بشأن إجراء انتخابات مبكرة، لكن الخلاف بينهما امتد إلى آلية حل البرلمان. ففي حين يطالب التيار الصدري بأن يُصدر القضاء قراراً بحل المجلس، تتمسك قوى الإطار التنسيقي بعقد جلسة للبرلمان، والتصويت على حله بعد تمرير الحكومة الجديدة. وفي هذا الإطار، أكد ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه نوري المالكي، أن حل مجلس النواب يكون من خلال طريقة واحدة فقط. وبحسب عالية نصيف، النائب عن ائتلاف دولة القانون، فإن حل المجلس يكون عبر المادة 64 من الدستور؛ سواء من خلال “السلطة التشريعية” وذلك بجمع توقيعات 110 من النواب، أو من خلال “السلطة التنفيذية” عبر طلب رسمي تقدمه رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية.

إلا أن حكومة الكاظمي هي حكومة بلا صلاحيات كاملة وفقاً لقرارات المحكمة الاتحادية العليا، ولهذا فهي لا تملك أية صلاحية لتقديم أي طلب لحل مجلس النواب؛ وبالتالي يكون حل المجلس عبر “السلطة التشريعية”، أي البرلمان نفسه، وهو ما يعيد المشكلة برمتها إلى نقطة البداية.

خيار مطروح

في هذا السياق، يبدو بوضوح غياب الحلول الممكنة لفك تعقيدات الأزمة السياسية الخانقة التي يمر بها العراق، طوال فترة زمنية امتدت إلى أحد عشر شهراً، منذ انتخابات أكتوبر من العام الماضي. ورغم الاحتمالات الناتجة عن الاختلافات بين القوى الشيعية العراقية، أو تحديداً بين التيار الصدري وقوى الإطار التنسيقي، سواء بخصوص تشكيل الحكومة أو حل البرلمان؛ إلا أن الانتخابات المبكرة تظل هي الحل الأقرب إلى الخروج من الأزمة، من منظور العوامل التي تدفع إجراء هذه الانتخابات إلى الواجهة.