أبعاد مغايرة:
هل تمثل احتجاجات الليرة أزمة للنظام الحاكم في تركيا؟

أبعاد مغايرة:

هل تمثل احتجاجات الليرة أزمة للنظام الحاكم في تركيا؟



شهدت بعض المدن التركية طوال الشهور الثلاثة التي خلت احتجاجات شعبية واسعة بسبب التدهور الحادث في سعر صرف الليرة التركية، وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل غير مسبوق، وآخرها التظاهرات التي اندلعت في مدينة أنقرة وإسطنبول في 14 ديسمبر الجاري. وتصاعدت حدة الاحتقانات مع خروج التجار الأتراك في 20 ديسمبر الجاري للتحذير من مخاطر اتجاه النظام السياسي للتفسيرات الدينية لتفسير أزمة الليرة الراهنة، حيث دقّت جمعية رجال الأعمال الأتراك جرس الإنذار، محذّرة في بيان لها الرئيس التركي من مخاطر مواصلة السياسة النقدية الحالية، باعتبار أن تداعياتها لم تعد محصورة في قطاع الأعمال، بل صارت تهدد معيشة المواطنين.

وبرغم قدرة النظام التركي على محاصرة الاحتجاجات، إلا أنها حملت دلالات لافتة، خاصة أنها من المرات النادرة في حقبة العدالة والتنمية التي يخرج فيها مواطنون ضد الأوضاع الاقتصادية. والأرجح أن احتجاجات الليرة لم تكن سوى شرارة تُنذر بتصاعد المخاطر في الداخل التركي، إذ إن حالة الاحتقان الشعبي في الشارع لا ترتبط فقط بتراجع قيمة العملة الوطنية، بقدر ما تعود إلى تصاعد حدة الاستقطاب السياسي بين النظام والمعارضة، إضافة إلى تدهور الأوضاع المعيشية، وارتباك السياسة النقدية، وهو ما وفر بيئة خصبة للاحتجاجات الأخيرة.

احتجاجات متمايزة

تأتي هذه الاحتجاجات بشكل متمايز عن التظاهرات التي اندلعت من قبل في عام 2013 والمعروفة بــ”غيزي بارك”، حيث يتخلل هذه الاحتجاجات عدد من الأبعاد الجديدة، التي يمكن إجمالها فيما يلي:

1- الأزمة المزمنة للعملة التركية: ترتبط الاحتجاجات التي شهدتها تركيا منذ أكتوبر الماضي وحتى اليوم بالانهيار الحادث في سعر صرف الليرة التركية، والذي يتوازى مع ضغوط اقتصادية قوية يواجهها النظام. ورغم أن سعر الليرة شهد تراجعاً محدوداً في عام 2018 بسبب تصاعد حدة التوتر آنذاك مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، لكنّ الوضع في الوقت الحالي يبدو مختلفاً إلى حد كبير بسبب تدخل الرئيس “أردوغان” في السياسات النقدية، وإصراره على تخفيض سعر الفائدة على الودائع في البنوك برغم ارتفاع معدلات التضخم في البلاد، وهو ما ترتب عليه هروب رؤوس الأموال، وتدهور قيمة الليرة بشكل متسارع، إذ إن تخفيض سعر الفائدة في أوقات ارتفاع التضخم خطوة غير معتادة لتعديل الوضع الاقتصادي.

وبرغم تحقيق الليرة انتعاشة قياسية لافتة في 23 ديسمبر الجاري بفضل الإجراءات التي اتخذها الرئيس التركي، والتي ساعدت في كبح جماح انهيار الليرة، والتي تضمّنت إجبار البنوك المحلية على بيع قدر كبير من الدولار بدعم من البنك المركزي؛ إلا أن هذا الإجراء دفع إلى تراجع لافت لاحتياطات تركيا من النقد الأجنبي، وهو ما يعني أن إجراء التحايل على تهاوي سعر الليرة عبر تدخل البنك المركزي ليس أكثر من تسكين مؤقت لأوجاع الأزمة.

2- حساسية التوقيت للنظام التركي: لا شك أن الاحتجاجات الحالية جاءت في وقت بالغ الأهمية بالنسبة للنظام التركي، حيث جاءت مع تصاعد انتقادات المعارضة للرئيس التركي، واتهامه بالفشل في إدارة أزمة الليرة، وهاجم رئيس حزب الشعب الجمهوري -أكبر أحزاب المعارضة التركية- في 24 ديسمبر الجاري، الآلية الجديدة المتعلقة بحماية الحكومة لودائع الأتراك، وأضاف في تصريحات له: “لقد جلبوا لنا الآن نظاماً جديداً، لقد قدموا ضمانات بالدولار. إذن دعونا نستغني عن الليرة التركية نهائياً”.

كما تتزامن أزمة الليرة التركية مع تصاعد دعوات المعارضة بضرورة إقالة الحكومة، وأهمية التوجه نحو انتخابات مبكرة، كما سعت المعارضة مؤخراً نحو توحيد صفوفها ضد توجهات الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، وتوصلت إلى اتفاق يرمي للعودة إلى نظام برلماني معزز، ووافقت ستة أحزاب، وهي: حزب الشعب الجمهوري، والحزب الصالح، وحزب المستقبل، وحزب “ديفا”، وحزب السعادة، وحزب الشعوب الديمقراطي؛ على الحدّ من سلطات الرئيس في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

في هذا السياق، فإن الاحتجاجات الشعبية التي شهدها عدد من المدن التركية على خلفية تهاوي سعر الليرة تحمل في طياتها انعكاساتها على الرئيس التركي، وحزب العدالة والتنمية في المرحلة الحالية، حيث تتلاشى شعبية الرئيس التركي بسبب سياسته الاقتصادية التي كانت في السابق ضمانة لنجاحه، وهو ما تحاول المعارضة التركية الاستفادة منه للضغط لإجراء انتخابات مبكرة أو على الأقل توظيف أزمة الليرة الحالية في الترويج لموقعها السياسي في الشارع التركي قبل الانتخابات المقرر لها في عام 2023، وهو أمر يثير قلق حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي يسعى إلى تماسك جبهته الداخلية، وأن يتعامل مع احتجاجات الليرة بهدوء.

3- التوسع المكاني والنوعي للاحتجاجات: على الرغم من أن الاحتجاجات الأكبر ضد تهاوي سعر الليرة جاءت في المدن الكبرى، وبخاصة أنقرة وإسطنبول؛ فإن عدة محافظات تركية أخرى قد أبدت تضامنها مع تلك التظاهرات، خاصة في المحافظات الحدودية، وأهمها مدينة أدرنة بعد استثمار مواطنين من بلغاريا التراجع الحادث في الليرة، واختراق الحدود التركية في منتصف ديسمبر الجاري لشراء البضائع بأسعار زهيدة.

في المقابل، فإن تركيا شهدت طوال الشهور التي خلت عدداً واسعاً من الاحتجاجات لا ترتبط فقط بأزمة الليرة، فقد توازى معها تظاهرات الأكراد (جنوب شرق تركيا) احتجاجاً على عمليات القمع التي تمارسها مؤسسات الدولة التركية ضد المواطنين الكرد، فضلاً عن تظاهرات شهدتها البلاد في مارس الماضي رداً على خروج تركيا من اتفاق إسطنبول لمكافحة العنف ضد المرأة، جنباً إلى جنب مع تظاهرات طلابية في جامعة البوسفور رفضاً لتعيين أحد الأكاديميين المحسوبيين على العدالة والتنمية الحاكم. كما شهدت البلاد في أغسطس الماضي تظاهرات واسعة ضد اللاجئين السوريين.

4- ضعف المناعة الخارجية لتركيا: لم تواجه تركيا هذا المستوى من الضغوط الإقليمية والدولية في أي وقت سابق مثلما تبدو في الوقت الحالي. إذ كاد التصعيد مع إدارة “بايدن” أن يتطور إلى مرحلة القطيعة، خاصة بعد تصاعد انتقادات واشنطن للممارسات السلطوية في الداخل التركي، والإصرار على استبعاد أنقرة من برنامج إنتاج مقاتلات F35 بعد حصولها على منظومة الدفاع الروسية الصاروخية S400. كما دخلت العلاقة مناخ الشحن مع الاتحاد الأوروبي بعد قرار مجلس أوروبا في ديسمبر الجاري بتجميد مفاوضات لحاق تركيا بعضوية الاتحاد.

مسارات محتملة

هناك عدد من السيناريوهات حول كيفية تعامل السلطات التركية مع الاحتجاجات التي أفرزتها أزمة الليرة التركية، والتي يمكن توضيحها في التالي: 

1- الاستمرار في مسار المواجهة: يمكن أن يستمر الرئيس التركي في تدخلاته في السياسة النقدية، والإصرار على خفض معدلات الفائدة على الودائع من دون النظر إلى التداعيات الاقتصادية السلبية على سعر صرف الليرة، مما قد يزيد من تفاقم الأزمات المعيشية للمواطنين. وعلى الرغم من مواصلة الليرة التركية تسجيل هبوط غير مسبوق في قيمتها، لا يزال الرئيس التركي يتعهد بالاستمرار بخفض معدل الفائدة، ومحاربة ما يسميه “الربا”، بهدف تحفيز النمو والإنتاج وتعزيز الصادرات. هنا، يمكن فهم اتهام الرئيس التركي للمضاربين على العملة، حيث أكد في تصريحات له في 30 نوفمبر الماضي، “أن تركيا تواجه المضاربة على سعر الصرف والفائدة، وترفض سياسة جذب الأموال الساخنة بفائدة عالية”.

في سياق متصل، يُصر الرئيس التركي الذي لا يعبأ بانتقاد المؤسسات المالية الدولية، على تحديد بوصلة السياسة النقدية للبلاد، من خلال دفع الحكومة للاستمرار في خفض أسعار الفائدة، ناهيك عن إجراء الرئيس التركي تغييرات حساسة في قيادات البنك المركزي، حيث أقال ثلاثة محافظين للبنك المركزي خلال عامين ونصف العام لضمان تنفيذ تعليماته.

2– انتهاج أسلوب التهدئة: يمكن أن تلجأ تركيا إلى التجاوب مع مطالب المتضررين من أزمة الليرة لتهدئة التظاهرات، وذلك عبر البحث عن بدائل اقتصادية جديدة، وهو ما ظهر في الضغط على البنوك المحلية لزيادة مبيعاتها من الدولار، وكذلك إعلان محافظ البنك المركزى التركي في 24 ديسمبر الجاري عن توسيع اتفاقيات مبادلة العملة مع بعض الدول. فبحسب تصريحات محافظ البنك “شهاب قوجي أوغلو”، في 23 ديسمبر الجاري، فإن ثمة محادثات جارية بين “المركزي التركي” ونظيريه في أذربيجان والإمارات بشأن اتفاق محتمل لمبادلة العملات. وتعد آلية مبادلة العملة من الأساليب التي تلجأ لها بلدان ترتبط بعلاقات تبادل تجاري كبيرة لتمويل جزء من علاقاتها التجارية. بالتوازي مع ذلك، أعلن الرئيس التركي في 23 ديسمبر الجاري عن رفع الحد الأدنى للأجور في تركيا لنحو 50 بالمئة ليبلغ 4250 ليرة (275.44 دولاراً) شهرياً العام المقبل في إطار إجراءات تهدف إلى تخفيف وطأة انهيار العملة وارتفاع التضخم.

3– التراجع عن النموذج الاقتصادي: تحت وطأة تفاقم أزمة الليرة، وتصاعد حدة الغضب الشعبي، والعجز عن حدوث اختراق في الأزمات المعيشية، قد يتجه الرئيس التركي المقبل على انتخابات مفصلية في عام 2023 إلى التراجع عن خططه الاقتصادية، والالتزام بقواعد السياسات النقدية المعمول بها عالمياً. لكنيلاحظ أن خيار التراجع عن خطط الرئيس التركي مستبعدة، فبحسب مراقبين للاقتصاد التركي، يواصل الرئيس “أردوغان” معركته ضد أسعار الفائدة، كما أنه تحت ضغط الاحتجاجات الحالية تعهد بمعالجة الاختلالات الناتجة عن توجهاته الاقتصادية الجديدة، واعتبر أن ما يحدث في سوق صرف الليرة هو أمر عارض، وأن بلاده تبني نموذجاً اقتصادياً جديداً. وكان الرئيس التركي قد طالب في تصريحات له في 8 ديسمبر الجاري المواطنين الأتراك بالصبر والثقة في النموذج الاقتصادي الجديد للحكومة، الذي بموجبه يُولي أولوية لنمو اقتصادي تقوده أسعار فائدة منخفضة.

رسائل الليرة

وفي الختام، يمكن القول إن استمرار السياسات النقدية التي يتبناها الرئيس “أردوغان”، والتي تتضمن تخفيض سعر الفائدة، قد تدفع المجتمع نحو حافة الهاوية إذا ما فشلت في التحايل على التدهور الحادث في سعر الليرة. كما أن التظاهرات التي شهدتها بعض المدن التركية الكبرى تكشف في أهم جوانبها عن تفاقم الأزمة المعيشية، واستمرار تراجع شعبية النظام.