تُشير عملية الإنزال الأمريكية لاعتقال قيادي في تنظيم “داعش”، شمالي غرب سوريا، في 17 يونيو الجاري، إلى استخدام الولايات المتحدة هذا النمط غير الشائع في عمليات مكافحة الإرهاب، لاستهداف قيادات في الصف الأول، بعدما كان هذا النمط يُستخدم لاستهداف زعماء التنظيم في 2019 و2022. وتواجه محاولات التوسع في استخدام هذا النمط عقبات عديدة، منها انعكاسات الأزمة الروسية-الأوكرانية على الساحة السورية، وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، والتخوف من مواجهات عسكرية في إطار تصدير التوتر، إضافةً إلى موازنة القوات الأمريكية بين المكاسب المتوقعة والخسائر المحتملة.
نفّذت القوات الأمريكية المشارِكة ضمن التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش”، المتمركزة في سوريا، عملية إنزال جوي في شمال غرب سوريا، لملاحقة قيادي كبير في التنظيم يدعى هاني الكردي، أسفرت عن اعتقاله في 17 يونيو الجاري. ووفقاً لبيان التحالف الدولي، فإن القيادي في “داعش” تم تقييمه باعتباره “صانعاً للقنابل ذا خبرة”، وأصبح الآن أحد كبار قادة التنظيم في سوريا، ويُخطط لنشاط وعمليات التنظيم. ولكن اللافت في هذا السياق، أن العملية كانت عبارة عن إنزال لقوات خاصة، حيث لم يتم استهداف القيادي في “داعش” عبر قصف جوي لطائرات من دون طيار، باعتباره النمط الأكثر شيوعاً في عمليات التحالف ضد “داعش”.
أبعاد حاكمة
في ضوء انتهاج القوات الأمريكية نمط الإنزال الجوي لملاحقة القيادي في تنظيم “داعش” هاني الكردي، يمكن تحديد عدد من الأبعاد الرئيسية في تلك العملية وذلك على النحو التالي:
1- استخدام نمط غير شائع في مكافحة الإرهاب: تعتمد الولايات المتحدة بشكل أساسي في استهداف قيادات التنظيمات الإرهابية، على استخدام الطائرات من دون طيار، في البيئات المختلفة، سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو الصومال، لقصف أهداف مطلوبة لديها، في إطار استراتيجية “قطع رأس القيادة”، ضمن مقومات النهج الذي يرتكز على “مواجهة العدو” في مكافحة التمرد المسلح. ولكن في المقابل، يرتبط استخدام نمط الإنزال في عمليات مكافحة الإرهاب بتحقيق أهداف محددة ونوعية، مثل تحرير الرهائن، أو اعتقال قيادات بارزة ومؤثرة في التنظيمات الإرهابية، ولكنه غير شائع، في ضوء المخاطر التي قد تُحيط بهذا النمط العملياتي، خاصة فيما يتصل بإمكانية خسارة أفراد من وحدات الإنزال، مقارنة بعمليات القصف بطائرات من دون طيار. ويوحي استخدام هذا النمط بأن الكردي يُصنَّف لدى الولايات المتحدة بأنه “عالي القيمة”، لإمكانية الحصول على معلومات متقدمة خلال عمليات استجوابه. وهنا، يمكن الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لم تلجأ إلى نمط الإنزال إلا في حالات محدودة، مثل استهداف زعيمَيْ “داعش” أبو بكر البغدادي وأبو إبراهيم الهاشمي القرشي.
2- النطاق الجغرافي لعملية الإنزال في غرب سوريا: من خلال المعلومات المتاحة وفقاً لبيانات التحالف الدولي ومليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وعدد من التقارير الإعلامية السورية المحلية، يمكن تحديد النطاق الجغرافي لعملية الإنزال، في ظل مشهد معقد ميدانياً على مستوى تنازع وتقاسم السيطرة بين الأطراف المختلفة على الساحة السورية، إذ إن عملية الإنزال كانت في شمال غرب سوريا في محافظة حلب، وتحديداً في مدينة جرابلس القريبة من الحدود التركية، وتخضع تلك المنطقة لسيطرة مليشيات مسلحة تُصنَّف بأنها معارضة ضمن عملية “غصن الزيتون”، كما تشهد محافظة حلب عمليات لتنظيم “داعش” باتجاه منطقة البادية وسط سوريا. وبشكل عام، فإن عملية الإنزال حدثت في مناطق لا تخضع لسيطرة (قسد)، ولكنها منطقة تبعد عن مدينة عين العرب كوباني نحو 33 كيلو متر، والتي شهدت انطلاق العمليات العسكرية الأمريكية من قاعدة لافارج.
3- التركيز على العمل الاستخباراتي الميداني الدقيق: تشير عملية الإنزال الأمريكية الأخيرة إلى التركيز على العمل الاستخباراتي الميداني لتوجيه ضربات لقيادات في تنظيم “داعش”، دون الاقتصار فقط على تحديد مناطق تمركز عناصر التنظيم، التي قد تعتمد على عمليات استطلاع بطائرات من دون طيار لرصد التحركات ومن ثم تنفيذ عمليات قصف. ولكن عملية الإنزال تكشف عن عمليات تتبع للقيادي في التنظيم، في ضوء إشارة بعض التقارير المحلية السورية إلى أن الكردي يمتلك صهاريج نفط يستغلها كواجهة له في الإقامة بمحافظة حلب، كما أن العملية تحمل أبعاداً تتعلق بجهود استخباراتية لتكفيك خلايا “داعش”، إذ تطرق المركز السوري لحقوق الإنسان إلى أنه تم اعتقال ثلاثة أشخاص برفقة الكردي، فيما هربت عناصر أخرى بعد اشتباك مع القوات الأمريكية.
4- اختباء القيادات خارج نطاق نشاط “داعش”: بمقارنة النطاقات الجغرافية لاعتقال واستهداف قيادات “داعش” بنمط عمليات الإنزال الجوي للقوات الخاصة الأمريكية، فإن البغدادي أو الهاشمي زعيمي التنظيم السابقين كانا يقيمان في مناطق قريبة من الحدود التركية وليست قريبة من النطاق الجغرافي لعمليات التنظيم. وتُشير تفاصيل اعتقال الكردي إلى أنه قيادي كبير في “داعش” وفقاً لبيان التحالف الدولي، بغض النظر عن الدور المنوط به داخل التنظيم. وهنا، فإن مراكز التنظيم الرئيسية المنخرطة في عمليات التخطيط والإمداد والدعم اللوجيستي للمجموعات والعناصر يمكن أن تكون في مناطق بعيدة نسبياً عن النطاق الجغرافي للنشاط العملياتي، وتقيم في مناطق تخضع لسيطرة أطراف مختلفة على الساحة السورية، لاعتبارات تتعلق بالاختباء، وعدم تعريض تلك القيادات للخطر في نطاق المواجهات.
تحديات رئيسية
في ضوء اقتصار نمط عمليات الإنزال للقوات الأمريكية سابقاً على استهداف زعيمي التنظيم السابقين البغدادي والهاشمي، واحتمالية توسيع استخدام هذا النمط ليشمل قيادات كبيرة كما حدث في عملية اعتقال الكردي؛ فإنّ هذا الاتجاه يواجه عدداً من التحديات، في ظل الاعتبارات والأبعاد المختلفة للعملية الأخيرة، ويتمثل أبرزها في:
1- انعكاسات الحرب الأوكرانية على الساحة السورية: ألقت الحرب الأوكرانية، وما تبعها من توتر شديد بين الولايات المتحدة ودول أوروبية من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، بظلالها على مستوى عدد من الملفات والمناطق التي تشهد تصاعداً في حدة الصراع والتنافس، وكان من بينها الساحة السورية،إذ اتسع نطاق التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، وقد تكون تلك الانعكاسات مؤثرة على إمكانية توسيع الولايات المتحدة استخدام هذا النمط العملياتي، في ضوء احتمالية تطور هذا التوتر بين الدولتين إلى مستوى قد يترتب عليه عمل عسكري بينهما على الساحة السورية، في إطار من تصدير التوتر بفعل الخلافات حيال الحرب الأوكرانية. ويبرز هنا ما أعلنته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن قصف طائرات روسية من طراز “سوخوي” موقعاً يتبع فصيل “مغاوير الثورة” بقاعدة “التنف” التابعة للتحالف الدولي لمواجهة “داعش”، وسط تخوفات من عسكريين أمريكيين من أن يؤدي خطأ إلى اندلاع مواجهات مسلحة بين الطرفين في سوريا. وربما لا ترغب الولايات المتحدة في إثارة مزيد من التوتر مع روسيا، وبالتالي عدم التوسع في هذا النمط العملياتي في شمال غرب البلاد.
2- إشكالية “الإنزال” في ظل تعقد المشهد الميداني: تشارك قوات التحالف الدولي، ولا سيما القوات الأمريكية، في عمليات ميدانية برية لدعم “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، كما أن عمليات الإنزال للقوات الأمريكية ليست جديدة على الساحة السورية، وسبق أن أعلنت قوات “قسد” مشاركة القوات الأمريكية عبر عمليات إنزال لدعم جهود السيطرة على حالات التمرد في السجون التي تضم الآلاف من عناصر “داعش”. وبغضّ النظر عن طبيعة وشكل العمليات العسكرية للقوات الأمريكية، فإنها تتركز جغرافياً في المناطق الواقعة شمال شرق سوريا، أو في محيط القواعد التي تتمركز فيها قوات التحالف. في المقابل، فإن عمليات الإنزال في بيئات لا تخضع لسيطرة القوات الأمريكية أو لسيطرة أطراف متحالفة مع تلك القوات، وبالنظر إلى اختباء قيادات “داعش” خارج حدود تلك السيطرة جغرافياً، وفقاً للمناطق التي تم فيها استهداف قيادات التنظيم شمال غرب البلاد؛ فإنه من الصعوبة التوسع بشكل كبير في عمليات الإنزال لملاحقة قيادات “داعش”، خاصة في ظل تعقيدات المشهد السوري ميدانياً، وتقاسم السيطرة بين أطراف مختلفة داخل المحافظة الواحدة، عقب تمكن قوات الجيش السوري- بدعم من القوات الروسية ومليشيات إيرانية- من بسط السيطرة على مناطق واسعة في سوريا خلال السنوات القليلة الماضية، كما أن بعض تلك المناطق تخضع لسيطرة مليشيات ومجموعات مسلحة ربما لا تكون على وفاق مع الولايات المتحدة، ولذلك كان اختيار أقرب قاعدة قريبة من جرابلس- مكان إقامة الكردي- عاملاً مهماً في تنفيذ عملية الإنزال.
3- الموازنة بين المكاسب المتوقّعة والخسائر المحتملة: تخضع عمليات الإنزال في البيئات المختلفة إلى تقييم دقيق للموازنة بين المكاسب المتوقّعة والخسائر المحتملة، تحسباً لتعرض القوات المشاركة لمواجهات شديدة، سواء خلال عملية الإنزال أو عمليات الملاحقة واعتقال القيادات. وفي ضوء تنفيذ تلك العمليات في نطاقات جغرافية لا تخضع لسيطرة الولايات المتحدة؛ فإن عملية الإنزال قد تواجه خسائر محتملة، وبالتالي فإن المخاطرة في تنفيذ تلك العمليات يرتبط بأهمية الهدف منها، خاصة إذا كان اعتقال زعيمَيْ تنظيم “داعش” كما حدث في 2019 و2022، أو اعتقال قيادي كبير يخضع لتقييم الولايات المتحدة بأنه “هدف عالي القيمة”، في إطار استراتيجية مكافحة الإرهاب. كما أن تلك المخاطر المرتبطة بعملية الإنزال لا تتوقف على إصابة أو مقتل بعض أفراد القوات المشاركة، ولكنها تتخطى إلى احتمالات تعرض المدنيين في نطاق العملية للخطر، منعاً لانعكاسات سلبية على الولايات المتحدة فيما يتعلق بسقوط ضحايا مدنيين خلال عمليات مكافحة الإرهاب. وبغضّ النظر عن طبيعة دور الكردي في “داعش”، فإنّ تنفيذ تلك العملية في ضوء تقييم المخاطر لاعتقاله، يكشف عن أن عملية الاعتقال وليس الاستهداف بطائرات من دون طيار أولوية، مما يعني أهميته بالنسبة للتحالف الدولي.
4- القدرة على مواصلة الجهد الاستخباراتي بالوتيرة نفسها: يحتاج الإنزال الجوي إلى عمليات تخطيط محكمة وتقييم المخاطر، وهي مقومات أساسية يصعب تحقيقها من دون جهد استخباراتي دقيق وموثوق. فعلى سبيل المثال، أشارت تقارير إعلامية أمريكية إلى أن عملية استهداف زعيم “داعش” أبو إبراهيم الهاشمي في 3 فبراير الماضي، استغرقت بضعة أشهر للتخطيط، أي أن هذا النمط من العمليات يحتاج لفترة ليست بالقصيرة للتأكد من الأهداف عبر جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية، وعمليات الرصد والاستطلاع المتواصلة، وبالتالي فإن تنفيذ هذا النمط من العمليات ليس شائعاً ويحتاج إلى عمليات تخطيط معقدة وممتدة لفترة ليست بالقصيرة، كما أن ثمة تحدياً مرتبطاً بالقدرة على مواصلة هذا الجهد الاستخباراتي بالوتيرة نفسها والدقة والموثوقية في مختلف المناطق التي قد تشهد اختباء عناصر “داعش”.
تحول محدود
أخيراً، من غير المتوقّع التوسع بشكل كبير في انتهاج القوات الأمريكية المشارِكة في التحالف الدولي لمواجهة “داعش” نمطَ عمليات الإنزال لاستهداف واعتقال قيادات التنظيم على مستوى الصف الأول أو تلك الأهداف التي تُصنف بـ”القيمة الكبيرة”، ولكن اعتقال القيادي في “داعش” هاني الكردي يمكن أن يشير إلى تحول أمريكي على مستوى استخدام هذا النمط في استهداف قيادات “مؤثرة” على صعيد التخطيط العملياتي أو تتولى مهام لوجيستية أو تمويلية للمجموعات والعناصر الإرهابية على الساحة السورية، في إطار توجيه ضربات نوعية يمكن أن تؤثر على عمليات “داعش”، وتحجم نشاطه في مناطق شمال شرق سوريا بشكل خاص، ومواجهة أي اختراقات أمنية للمناطق التي تخضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).