على مدى العقود الماضية ارتبط شهر مارس (آذار) بذكريات سلبية لدى غالبية العرب لما تضمن من أحداث جسيمة كانت لها تبعات خطيرة على المنطقة، وعلى رأسها الغزو الأميركي للعراق يوم 20 مارس (آذار) سنة 2003.
أما شهر في مارس من هذا العام فقد حصل تطوران مهمّان يمكن لهما كسر دورة الحروب والخراب التي اجتاحت المنطقة نتيجة غزو العراق، سوف نتطرق إليهما فيما بعد في المقال.
فالكثير من العراقيين كانوا يرون أن السبيل الوحيد لتحقيق الحرية والكرامة الإنسانية لن تتأتى إلا من خلال الإطاحة بالنظام الاستبدادي الحاكم، وبعضهم كانوا على اقتناع بأن الطريقة الوحيدة لتحقيق هذا الهدف هي من خلال التدخل العسكري الأجنبي.
ربما يكون غزو العراق قد تخلص من حكم ديكتاتوري غاشم، ولكنه أيضاً أدى إلى تفكيك الدولة دون استبدال نظام بها يوفِّر الحرية والأمن واحترام الكرامة الإنسانية والازدهار التي كان يتطلع إليها العراقيون.
ولذلك فإن كثيراً من العراقيين يطرحون على أنفسهم السؤال: هل نحن اليوم أفضل حالاً مما كنا عليه في عام 2003؟
وهو سؤال مشروع في ضوء المأساة الذي يعيشها شعب العراق منذ عشرين عاماً، حيث أكثر من 650 ألف عراقي فقدوا أرواحهم، ووفقاً لرئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى كاظمي، تمت سرقة واختلاس أكثر من 600 مليار دولار منذ عام 2003 لإثراء عدد قليل من الأفراد. كما أن العراق الغني بالنفط يعاني من أزمة طاقة وشح في الموارد اللازمة لتحقيق التنمية. وربما الأسوأ هو أن النظام الديمقراطي الفعال الذي يلبّي تطلعات الشعب العراقي في الحرية والكرامة والازدهار لا يزال بعيد المنال.
وفي الذكرى العشرين لهذا الغزو الغاشم لا بد من وقفة تأمل ليس فقط في الكارثة التي ألمَّت بالشعب العراقي وإنما لتبعيات الغزو السلبية على العالم العربي، ثم استخلاص الدروس المستفادة من تلك التجربة المريرة.
أولاً: في حين كان للعراقيين مظالم مشروعة وما زالوا، فمن الواضح أن التعويل على التدخل العسكري الخارجي لم يؤدِّ إلى النتائج المرجوّة، بل على العكس من ذلك، أطلق التدخل العسكري الخارجي العنان لدورة جهنمية من العنف والإرهاب والصراع الطائفي والفساد. وهذا ليس من المستغرَب؛ إذ بالنظر إلى السوابق التاريخية: غزو الولايات المتحدة لكوبا في عام 1898، ثم هايتي في عام 1915، بالإضافة إلى غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان عام 1979… كلها تدخلات نالت من استقلال تلك البلدان وقوضت تطورها السياسي. ولكن أكثر من أي شيء آخر دفعت الشعوب ثمناً باهظاً ولا تزال حتى يومنا هذا.
ثانياً: أدى التدخل الأميركي إلى إضعاف الدولة الوطنية في العراق أولاً من خلال تفكيك مؤسساتها -على الرغم من أوجه قصورها وتجاوزاتها- التي كانت تدير المصالح المختلفة للشعب العراقي بشكل مقبول لمعظم المواطنين، وثانياً من خلال إقحام مفهوم الطائفية في الدستور الجديد للبلاد، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للطائفية بالسيطرة ليس فقط على المشهد السياسي في العراق وإنما على أجزاء أخرى في المنطقة.
ثالثاً: ثبت كذلك أن الاعتماد على الشتات العراقي لتحقيق التغيير السياسي غير مجدٍ. فالشتات على الرغم من أن لديهم خبرة في ثقافة وممارسة الحريات والديمقراطية، فإنه ثبت أنهم بحكم وجودهم خارج البلاد لفترة ممتدة كان معظمهم منفصلين عن واقع البلاد ومن ثم لم يتمكنوا من قيادة التغيير السياسي بالشكل المطلوب.
رابعاً: الافتقار لدور عربي فعّال زاد من تعقيد الموقف، فمن دون الدعم العربي لم يستطع العراق التعامل بفاعلية مع تدخلات كلٍّ من الولايات المتحدة وإيران وتركيا.
وعليه يمكن استخلاص ما يلي من التجربة العراقية: أن التغيير السياسي يجب أن يأتي أساساً من الداخل، وأن التدخل الأجنبي بشكل عام والعسكري بشكل خاص له آثار سلبية طويلة المدى، وأن تغييب الدور العربي عن جهود التسوية السياسية للصراعات في المنطقة يؤدي إلى تفاقم الصراعات ويفتح المجال أمام مزيد من التدخل الخارجي في الشؤون العربية ويؤثر سلباً على المصالح العربية على المدى الطويل.
إذا كانت تلك العبر التي يمكن استخلاصها من مأساة العراق التي بدأت في مارس 2003، فما أهمية ما حدث في مارس 2023؟ خلال هذا الشهر حدث تطوران مهمان قد يكون من شأنهما طي صفحة التجربة المأساوية التي نتجت عن غزو العراق وربما يسهمان في إعادة تشكيل مستقبل المنطقة بما يصون مصالح الدول العربية بشكل أفضل.
فمنذ غزو العراق، تعرض مفهوم الدولة الوطنية في المنطقة العربية للاهتزاز. أما اليوم فنشهد تبني المملكة العربية السعودية مفهوم الدولة الوطنية، حيث أصبحت المملكة الآن تتبنى سردية جديدة عن الدولة السعودية تمتد إلى عصور ما قبل التاريخ ترى أن الدولة الوطنية في المملكة نتاج مجموعة من العوامل المختلفة: شعب وأرض وتراكم تاريخي وثقافي ممتد على مدى قرون، بالإضافة إلى الإسلام بوصفه المبدأ التي أُنشئت على أساسه الدولة الحديثة في المملكة. وخير دليل على ذلك الاحتفال بيوم العَلم لأول مرة في 11 مارس من هذا العام.
أما التطور الثاني فهو الاتفاق على التقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران، والذي يمكن أن تكون له تبعات مهمة ليس فقط على المنطقة، ولكن أيضاً على علاقة دول المنطقة مع العالم الخارجي. ولكن ربما الأكثر أهمية من ذلك أنه يمكن أن يضع نهاية للصراع الطائفي الذي خيّم بظلاله المدمرة على المنطقة على مدى العقدين الماضيين.
وهو تطور في الموقف السعودي لم يكن أن يتأتى إلا في إطار سياسة المملكة الخارجية سواء كان ذلك في تعاملها مع القوى الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا والصين، أو في إدارة سياستها النفطية أو المالية الدولية كما ظهر مؤخراً في تعاملها مع أزمة بنك «كريدي سويس».
فعلى الرغم من أن الطائفية ظاهرة موجودة في المنطقة منذ قرون غير أن نُظُم الحكم تمكنت -وبخاصة مع بزوغ الدولة الوطنية في القرن العشرين- من التعامل معها بقدر لا بأس به من النجاح، إلا أن ما شهدناه في العقود الأخيرة شيء مختلف تماماً، حيث تحولت الظاهرة إلى صراع مسلح ومواجهة محتدمة ليس فقط بين الدول وإنما داخلها أيضاً. وقد ظهر الشكل الجديد للطائفية مع الثورة الإيرانية التي فتحت الباب أمام إعادة إحياء الانشقاق بين السنة والشيعة وأعطته صبغة وطنية، كما ظهر إبان الحرب العراقية – الإيرانية. أما الغزو الأميركي للعراق فقد أعطى الفرصة للولايات المتحدة في استغلال الخلاف السني – الشيعي، والذي أدى إلى فرض الطائفية السياسية في العراق وتفجير التناحر بين الشيعة والسنة والأكراد.
أما الآن، بعد الاتفاق السعودي – الإيراني، فالأمل معقود على أن المصالحة بين الدولتين ستؤدي إلى وضع حد. في ضوء ما تقدم هناك سؤال يطرح نفسه: هل العالم العربي على أعتاب تغيير مهم، بعد فترة من عدم الاستقرار والضبابية والتخبط لأسباب عدة ربما أهمها الافتقار إلى القيادة، والاعتماد المفرط على القوى الخارجية، والطائفية المدمرة؟
أما الآن مع الجاذبية المتجددة لمفهوم الدولة الوطنية وإدراك خطورة التدخلات الخارجية، هل يمكن للدول العربية أن تستفيد من تجربة العراق وتعيد اكتشاف أن قوتها تكمن في تعاونها؟
الوقت وحده كفيل بالإجابة عما إذا كانت الدول العربية قادرة على الاعتماد على نفسها لمساعدة العراق في التغلب على مشكلاته، وأخذ المبادرة لإيجاد حلول سياسية للصراعات في كل من سوريا ولبنان واليمن، وفي صياغة رؤية مشتركة لهيكل أمني إقليمي يحافظ على المصالح العربية، بالإضافة إلى إعادة صياغة العلاقات العربية البينية على أساس المصالح المشتركة الاقتصادية والسياسية الحقيقية لا على المشاعر والشعارات.
نقلا عن الشرق الأوسط