تمكنت فرنسا ونيجيريا، خلال شهرى سبتمبر وأكتوبر الماضيين، من قتل أهم قياديي فرعى تنظيم “داعش” بغرب أفريقيا ومنطقة الصحراء، حيث أعلن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في 16 سبتمبر الماضي، أن القوات العسكرية الفرنسية في منطقة الساحل الأفريقي تمكنت من قتل قائد تنظيم “داعش” في الصحراء الكبرى عدنان أبو الوليد الصحراوي، المسئول عن تنفيذ هجمات إرهابية عديدة كان من ضمنها قتل بعض موظفي الإغاثة الفرنسيين في عام 2020، وهى العملية التي أعقبتها ضربة أخرى من قبل الجيش النيجيري أسفرت عن مقتل أبو مصعب البرناوي مسئول فرع تنظيم “داعش” في غرب أفريقيا في 15 أكتوبر الفائت.
هذه الضربات الأمنية النوعية ضد قيادات تنظيم “داعش” في منطقتى الساحل والصحراء الأفريقية فرضت ضغوطاً قوية على التنظيم المركزي، سواء على مستوى اختيار قيادة جديدة لزعامة فرعى التنظيم، أو على صعيد إعادة هيكلة الاستراتيجية الخاصة بالتنظيم خلال المرحلة القادمة، والتي ترتبط بطبيعة وخبرة المسئولين عن تولي قيادة فرعى التنظيم. واللافت في هذا السياق، هو أن تنظيم “داعش” المركزي في العراق فضلاً عن فرعيه في غرب أفريقيا والصحراء حرصوا على عدم إصدار أى بيانات حول المسئولين المرشحين لقيادة فرعى التنظيم، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول الأسماء التي يمكن أن تتولى مسئولية قيادة فرعى التنظيم خلال المرحلة القادمة والدلالات المجتمعية والتنظيمية لذلك.
مغزى الاختيار
في هذا الإطار، تداولت العديد من المواقع المُغلقة التابعة لتنظيم “داعش” في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء اسم مسئول جديد للتنظيم في منطقة الصحراء، هو عبد البراء الأنصاري الصحراوي، ليحل محل الإرهابي عدنان أبو الوليد الصحراوي الذي أعلنت فرنسا مقتله في منتصف سبتمبر الماضي. وحسب اتجاهات عديدة، فإن التدقيق في الاسم يمكن أن يشير إلى جنسية المسئول التنظيمي الجديد، فكلمة الصحراوي تطلق على العناصر التي نشأت في المنطقة الحدودية بين موريتانيا ومالي، أو منطقة العيون بالصحراء المغربية. وبالإشارة إلى الإرهابي المقتول عدنان أبو الوليد الصحراوي، واسمه الحقيقي الحبيب ولد علي ولد سعيد ولد يماني والمعروف بـ”الإدريسي الحبيب”، يمكن القول إن عبد البراء الأنصاري الصحراوي ينتمي، في الغالب، إلى المنطقة نفسها التي ينحدر منها الأول.
وقد كشفت المواقع التابعة لتنظيم “داعش” أنه تم اختيار عبد البراء الأنصاري الصحراوي خلال تواجده في ليبيا، على نحو دفع اتجاهات أخرى إلى تبني تفسيرات مختلفة لذلك تراوحت بين كون المسئول الجديد أحد قيادات فرع تنظيم “داعش” في ليبيا، وبين كونه محور الاتصال بين فرع التنظيم في ليبيا وفرعى التنظيم في الصحراء وغرب أفريقيا. لكن بتحليل الهيكل التنظيمي للأفرع الثلاثة، يتضح أن التنظيم المركزي دفع بعبد البراء الأنصاري الصحراوي للانخراط في أنشطة فرع ليبيا، كعنصر داعم يمكن أن يساعده على توسيع نطاق نفوذه، خاصة بعد محاولة التنظيم المركزي إعادة هيكلة الفرع عقب مقتل زعيمه أبو عبد الله العراقي على يد قوات الجيش الليبي في 23 سبتمبر 2020، فضلاً عن مقتل العديد من قيادات الصف الأول والثاني في التنظيم خلال العام الجاري.
دلالات عديدة
يمكن القول إن هذه الخطوة الجديدة التي قام بها “داعش” تطرح دلالات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- التركيز على الصف الثاني من تنظيم “القاعدة”: يشير اسم القيادي الجديد إلى جانب علاقته بالإرهابي عدنان أبو الوليد الصحراوي، إلى احتمال أن يكون أحد قيادات تنظيم “القاعدة” عام 2011، قبل الإقدام على إعلان البيعة لتنظيم “داعش” في عام 2014، وهو ما يدل على استمرار اعتماد الأخير على قيادات الصف الثاني المتبقي من العناصر “القاعدية” المنضمة للتنظيم منذ إعلان نشأته في عام 2014، وذلك للاستفادة من الخبرات التنظيمية والعسكرية التي يمتلكونها وتعويض الخسائر البشرية التي يتعرض لها نتيجة انخراطه في مواجهات عسكرية متعددة في آن واحد.
2- الاعتماد على عناصر البيئة المحلية: يتضح من خلال التركيز على مسئولي المستويات التنظيمية لأفرع تنظيم “داعش” في ليبيا ومنطقتى الصحراء وغرب أفريقيا، بجانب مسئولي “القاطع”- وهو الاسم الذي يطلق على المدن والمقاطعات التابعة لما يطلق عليه “الولايات”- أن التنظيم يختار مسئولي “القاطع” ومسئولي “الفرع” المحلي من عناصر محلية، ولاسيما في فرعى التنظيم في أفريقيا، وهو ما يعطي للتنظيمات الفرعية مساحات واسعة للسيطرة وتأسيس علاقات مع العشائر والقبائل المحلية التي تتحول في هذه الحالة إلى ظهير مجتمعي مهم يستند إليه التنظيم سواء في شن هجمات إرهابية ضد قوات الأمن والجيش ومصالح القوى الدولية أو التخفي بعد تنفيذ هذه الهجمات، حيث أن انغماس هذه العناصر داخل المكونات المجتمعية الموجودة يعرقل جهود أجهزة الأمن في تعقبهم بعد تنفيذ العمليات الإرهابية.
3- إجراء ترتيبات هيكلية داخل التنظيمات: بدأ تنظيم “داعش” منذ تولي الإرهابي أبو إبراهيم القرشي قيادته في أعقاب مقتل مؤسسه أبو بكر البغدادي في العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في محافظة إدلب السورية في 27 أكتوبر 2019، في إعادة صياغة الهياكل التنظيمية داخل أفرع التنظيم عبر تقسيم الأفرع إلى مستويات ثلاثة هى القاطع والفرع والقيادة المركزية، حيث يتم اختيار مسئولي القاطع والفرع من عناصر ذات خبرات “قاعدية” قديمة ومن البيئة المحلية، مع اختيار قيادة مركزية للأفرع من أسماء خارج المنطقة، وفي الأغلب يتم اختيار عناصر “عراقية” لتولي القيادة المركزية، وهو ما يعني أنه تم اختيار عبد البراء الأنصاري الصحراوي لتولي مسئولية الفرع في منطقة الصحراء وليس تولي قيادة الفرع بشكل مركزي.
4- توسيع مساحة الحركة لأفرع التنظيم: يوحي اختيار تنظيم “داعش” المركزي للإرهابي عبد البراء الأنصاري الصحراوي، بعد نحو شهرين من مقتل الإرهابي عدنان أبو الوليد الصحراوي، بأن التنظيم المركزي يواصل تبني الاستراتيجية نفسها التي تم إقرارها في مارس 2020، وجاءت تحت عنوان “مراحل عدم التمكين”، وتقضي بمنح مزيد من اللامركزية لأفرع التنظيم المختلفة عبر الفصل بين مسئولية فرع التنظيم وقيادته المركزية، على نحو يوفر مساحة أكبر من الموائمة المحلية بين التنظيم الإرهابي والعشائر والقبائل، مع الاستمرار في التخطيط المركزي عبر قيادة “داعش” في كل من العراق وسوريا.
اندماج محتمل
في المجمل، مثّل مقتل أبو مصعب البرناوي وعدنان أبو الوليد الصحراوي ضربة قوية لتنظيم “داعش” في منطقتى الصحراء الأفريقية وغرب أفريقيا، حيث تراجعت عمليات التنظيم بشكل نسبي خلال شهر أكتوبر الفائت، وهو ما دفع التنظيم المركزي في العراق إلى اختيار عبد البراء الأنصاري الصحراوي، من صفوف الجيل المتبقي من المؤسسين على مستوى فرع التنظيم في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية، في محاولة لإعادة هيكلة التنظيم مع التركيز على فرع التنظيم في ليبيا، وهو ما ظهر في عملية اختيار عبد البراء الصحراوي، والذي تم أثناء قيادته لفرع التنظيم في ليبيا، على نحو يرجح احتمال دمج فرع تنظيم “داعش” في ليبيا في إطار تنظيم “داعش” بمنطقة الساحل والصحراء الأفريقية.