الناظر من حالق على عالمنا يجده على حافة الهاوية، بالمعنى التاريخي للكلمة التي تتزاحم فيها حشود ما قبل الحرب العالمية الأولى، والانتظار المرهق لهجمات مدرعات «البانزر» الألمانية في الحرب الثانية، أو الأوقات التي كُتمت فيها أنفاس العالم خوفاً من الحرب النووية، في أزمات برلين وكوبا، وحرب 1973 في الشرق الأوسط.
لا يوجد قصور في التفاصيل، فالقوات الروسية تحتشد على الحدود الأوكرانية، بينما حقها واضح في أن تقوم بذلك داخل أرض الاتحاد الروسي. ولكن نيات فوهات المدافع ومواسير الدبابات لا يوجد لها هدف آخر غير الغرب في أوكرانيا؛ حيث الأقلية الروسية على الحدود، تماماً كما كان وجود الألمان في إقليم «السوديت» التشيكي منذراً. الغرب المرتبك لأسباب كثيرة حائر ما بين تقديم غطاء حلف الأطلنطي لكييف، وبين مدها بكثير من القدرات الدفاعية لجعل موسكو تفكر في الثمن.
المشهد بعيداً عن أوروبا مشتعل بدوره، وما جرى من اعتداء إجرامي على مطار أبوظبي الدولي هو استئناف وتوسيع جديد للحرب اليمنية، عن طريق إيران التي تريد مرة أخرى التأكيد على أن المفاوضات الجارية حول السلاح النووي الإيراني، هي عودة للاتفاق القديم الذي ليس له علاقة من قريب أو بعيد بقضايا الصواريخ الإيرانية، مضافاً لها الآن الطائرات المُسيَّرة، ولا بالوجود العسكري الإيراني بأشكال شتى في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ولا بما يجري من حرب خفية بين إيران وإسرائيل. العلامات والإشارات لا يخطئها نظر، والنيات أحياناً لا تغيب عنها بصيرة؛ وكلها على الحافة منذرة، وعندما تدخل ساحة المزايدات الداخلية في الدول فإنها تصير مشتعلة.
ولكن ما بال كل ذلك يحدث بينما يبدو الاتفاق الأميركي الإيراني قريباً، والأهم أن حجر الزاوية في الاقتراب من الاتفاق هو توافق روسي صيني على نزع فتيل الأزمة مع إيران، ثم بعد ذلك يمكن لبكين وموسكو التأثير فيما سوف يلي من أمور.
بالنسبة لكلتيهما فإنهما لا تريدان طرفاً نووياً جدياً في العلاقات الدولية، كما أنهما لا تريدان طرفاً أصولياً إسلامياً يقود ثورة الإرهاب في العالم؛ حيث «طالبان» على يمينهما في أفغانستان و«داعش» على يسارهما في العراق.
ومع تقدم المحادثات في فيينا لإحياء الاتفاق النووي الإيراني، حاولت الصين وضع نفسها كلاعب رئيسي في المنطقة، ولسبب وجيه: من مصلحة بكين الضغط من أجل رفع العقوبات الأميركية عن إيران التي وقعت معها شراكة ثنائية تاريخية متعددة الأبعاد، أهمها أنها أنقذت طهران من غول العقوبات الاقتصادية الأميركية والغربية. جاء ذلك في وقت دخلت فيه محادثات إحياء الاتفاق النووي المرحلة الصعبة من مناقشة الجوهر.
بدأ الإيرانيون المشهد عندما أعلنت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية، أن الأطراف وصلت إلى «مرحلة التفاصيل، وهي أصعب جزء من المفاوضات»، وكانت إحدى أكبر العقبات مطالبة طهران للولايات المتحدة بتقديم ضمان بأنها لن تنسحب من الاتفاقية مرة أخرى، وتعيد فرض العقوبات.
وبينما تبدو الصين «فاعل خير كبير»، بالتنسيق مع روسيا في الأزمة الإيرانية، فإن روسيا تبدو أنها تقوم بدور الموازن على الساحة السورية. ورغم انخفاض الوجود الأميركي، فإن روسيا لا تجد بأساً من غض الطرف عن التحركات العسكرية الإسرائيلية، في تعاون ضمني ضد إيران. وفي كل الأحوال فإن الأطراف الدولية الثلاثة: أميركا، وروسيا، والصين، يضعون أيديهم على قلوبهم، في مواجهة 4 تحديات لا يمكن تجاهلها من قبل واشنطن وموسكو وبكين: أولها احتمالات انهيار الاقتصاد العالمي؛ وثانيها عودة الإرهاب الذي برز في أشكال جديدة وتصميم مفزع خلال الفترة الأخيرة؛ وثالثها أن «كورونا» تعود إلى العالم في وحشية لا ينفع معها لا لقاح ولا علاج، وبعد عامين من «الجائحة» لا يوجد بصيص ضوء؛ ورابعها أن هناك شبكات من علاقات الاعتماد المتبادل لا يمكن تجاهلها، فالعلاقات التجارية والمالية الأميركية الصينية لا تزال هي الأعلى في الكون، وروسيا وأوروبا والغاز أصبحت مرتبطة بعضها ببعض ارتباط السوار بالمعصم.
المسألة في شكلها المفزع الموضح أعلاه، تعود في كثير من فزعها إلى أنها تستلهم عوالم ذهبت وراحت على أنها حاضرة وماثلة؛ وربما لن نفهم ما يجري دون استيعاب للتغيرات التي جرت على النظام الدولي خلال السنوات الأخيرة. هذه حالة جديدة على العلاقات الدولية في التاريخ المعاصر، ليس فقط بسبب العدد الثلاثي للأقطاب، ولكن لأنها تأتي في ظروف مختلفة تاريخياً عما كان عليه الحال طوال القرن العشرين، والبدايات الأولى للقرن الحالي.
التطورات التكنولوجية أعطت للأطراف الثلاثة ما لم تعطه إلى دول وقوى أخرى، مثل الهند أو الاتحاد الأوروبي. وجرت المراجعات لطبيعة النظام العالمي، والنظم السياسية المختلفة، بعد ظهور جائحة «كورونا». وجوهر الأمر هو سرعة انتشار الفيروس داخل الدول وبينها؛ بل وحتى انتقاله بين القارات، وفيه درجة من التركيز داخل العالم المتقدم: الصين، وأوروبا، والولايات المتحدة، وفيما عدا ذلك هناك نقاط متوسطة، مثل كوريا الجنوبية وإيران واليابان. ولكن الثابت أن العجلة في البحث عن العالم الجديد تحاول تجاوز ما الذي يعنيه «كوفيد-19» وتأثيراته على العالم، إلى القفز فوراً إلى إعادة تركيب الدنيا كلها وتوزيع القوة فيها، رغم أن كثيراً من متغيرات ذلك كان في حادثة قبل 12 يناير (كانون الثاني) 2020، عندما تم الإعلان عن أول مريض في ووهان الصينية. ساعتها كان معروفاً أن الصين قوة صاعدة في النظام الدولي، وكان معروفاً أن الولايات المتحدة آخذة في الانسحاب من العالم، وكان «بريكست» أول الإشارات إلى أن الاتحاد الأوروبي ليس كما يبدو عليه.
كان التغيير -كما يقال- مكتوباً فوق الحائط الزمني، بأن العالم يتغير في اتجاهات جديدة. سبقنا بالحديث عن عالم ثلاثي الأقطاب، وعالم ما بعد الثورة العلمية الرابعة التي قبل أن نعلم ما هي كنا في الحقيقة نتحدث عما غيَّرته.
أصبح العالم يدخل عصراً جديداً من تفكيك العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، ليس فقط لأن العالم عرف ذلك من زاوية الجغرافيا السياسية من خلال «بريكست»، وظهور التطورات في أوروبا والخليج، ولكن لأن الشركات تجد استمرار العولمة محركاً للاقتصاد العالمي أكثر صعوبة، وتجد نفسها مضطرة إلى إعادة تشكيل سلاسل الإمداد العالمية بتوطينها محلياً. فالمتصور بعد الأزمة أن تحدث تحولات دائمة في القوة.
واقتصادياً يواجه العالم أكبر أزمة اقتصادية، ومن الواضح أن الاقتصاد العالمي يتجه نحو الركود، وتتصاعد الأعباء الاقتصادية على الدول؛ وتزداد معدلات الفقر، والأمن الغذائي يواجه عديداً من تهديدات؛ بالإضافة إلى اختلالات حادة في المؤشرات الكلية للاقتصاد.
في النهاية، قد يظهر نظام عالمي جديد، بما فيه من تحديات التفكيك للعولمة والنظم الإقليمية، والمواجهة مع أنماط تكنولوجية جديدة، جعلت التواصل الإنساني أكبر من أي وقت مضي، بينما العزلة وسياسات الهوية تتأصل مع كل لحظة. قد يبدو الأمر كله متناقضاً، ويعطينا ضوءاً على التصرفات المتناقضة للدول بين الصقور والحمائم، ولكن كان هذا دائماً هو مفتاح التطور الإنساني.
نقلا عن الشرق الأوسط