نحو رؤية لعالم عربي ما بعد الفوضى – الحائط العربي
نحو رؤية لعالم عربي ما بعد الفوضى

نحو رؤية لعالم عربي ما بعد الفوضى



لا يبالغ من يقول إن البيئة الدولية قد انزلقت إلى حالة سيولة شديدة الخطورة: حروب ونزاعات، وكوارث مناخية وأوبئة، وأزمات في إمدادات الطاقة والغذاء، خرائط بحدود هشة، جروح دول وقوى عظمى مفتوحة، صراعات على تقاسم المياه والمواسم، وعلى التفوق العلمي والتكنولوجي، صراعات فاقت مخاطرها وأكلافها صراعات الماضي، صحوات لقوى إقليمية (متوسطة) لاسترجاع مشاريع نفوذ وثارات من التاريخ، وتفجر أحلام أو أوهام أكثر شراهة في كسر القوانين الدولية، وفي تلميع الأدوار، وتغيرات ديموغرافية وهجرات واسعة ولها تداعياتها الاجتماعية والسياسية المستقبلية.

قائمة طويلة من المتغيرات الجذرية والجارفة، وأخرى محتملة، كأن يستيقظ العالم على كارثة نووية في أوكرانيا، أو في مكان آخر، أو تشتعل حرب مجنونة فوق الهضاب الإيرانية، أو هدير مدافع وصواريخ ومسيرات في شرق المتوسط ومياهه، أو في بحر الصين والخواصر الآسيوية وسواحل إفريقيا.

أزمات أخرى سياسية واجتماعية جديدة يمكن توقعها في ظل هذه السيولة الهائلة والخطرة، وتداعيات ما يجري من تصدعات في النظام الدولي، والمؤسسات الأممية، وما أطلقته الحرب الروسية الأوكرانية من ديناميات مقلقة، سيكون لها تأثيرات بالغة في إعادة صياغة النظام الدولي، وبخاصة في ظل صعود وهبوط إمبراطوريات، وحالة تراجع الأنموذج الأمريكي ورمزيته، وخسارة هذا الأنموذج لعدد من سمات قوته ومميزاته، وعلى رأسها تراجع الثقة الشعبية بدور أمريكا عبر البحار، من خلال القوة العسكرية، ومعارضة «حقها» في فرض إرادتها على العالم، «فضلاً عن الانقسام المجتمعي الأمريكي سياسياً واجتماعياً، وانتشار العدائية في المناقشات العامة، وضمور بعض قدراتها الاجتماعية، وتراجع فرص النجاح أمام الأجيال الشابة»، وفقاً لما كتبه باحث بارز بمؤسسة راند الأمريكية، ونشرته مجلة «فورين أفيرز» في عددها الصادر في أغسطس الجاري.

في ظل هذه السيولة الخطرة، والمتغيرات الجارفة، أمست حمى المنافسة الدولية في أوج غليانها، بعضها منافسات قصيرة المدى، وحيث تحضر القوة العسكرية والاقتصادية والطموح، لكن غالبيتها منافسات طويلة الأمد، وممتدة فتحضر مع القوة  خصائص الأمم وجوهرها وقيمها، وتماسك مجتمعاتها، وبنيتها الإنتاجية والتكنولوجية وحيوية المجتمع ومؤسساته الفاعلة والديناميكية، وهوية الدولة الوطنية والجامعة، والإرادة والرؤية الرشيدة والثاقبة.
ولاستكمال صورة المشهد، يمكن إضافة تطورين على درجة كبيرة من الأهمية الاستراتيجية، بالنسبة للعالم العربي، وبخاصة إقليمه الخليجي العربي.
التطور الأول هو الاتفاق النووي الجديد، الذي اكتملت نصوصه كوثيقة سياسية وقانونية وفنية ملزمة، والذي سيفتح الباب واسعاً أمام حوارات مباشرة بين طهران وواشنطن، لبناء تفاهمات حول مختلف الملفات ومن بينها ملفات ذات صلة بشؤون الأمن الإقليمي والطاقة والاقتصاد، فضلاً عن ملفات لنزاعات مازالت مشتعلة في عدد من الدول العربية، ولإيران وأذرعها المسلحة والمدعومة منها أدوار مؤثرة في هذه النزاعات.
والتطور الثاني هو تكريس اعتراف قوى كبرى (أمريكا المتراجعة – أوروبا ما بعد أزمة إمدادات الطاقة – والثنائي الصيني الروسي)، باعتبار أن إيران وتركيا هما شريكان بنسب متفاوتة، لهذه القوى، ولقوى «بيروقراطية معولمة» عابرة للحدود القومية في رسم مستقبل الأمن والتنمية «في الشرق الأوسط الكبير».
* ما العمل؟
– لا نبالغ، لو اجتهدنا وقلنا إن لوحة هذا المشهد مقلقة، وأحياناً مفزعة إلى حد كبير، خاصة أنها مفتوحة على كل الاحتمالات.
كما أنها محل نقاشات وتحليل ورصد وسيناريوهات في مراكز البحث الأكاديمية وصناعة السياسات في عواصم كثيرة في العالم، في حين يغيب التفكر والبحث فيها عن مؤسساتنا الإقليمية ومراكز البحوث والجامعات العربية، وإذا حضر، على استحياء وتثاؤب، فإنه لا يبحث عن صمامات أمان وتقديرات مواقف جمعية، رغم أن ما يجري في البيئة الدولية، قد وضع جميع التشكلات الجيوسياسية أمام اختبارات عسيرة.
يستغرب الصديق الدكتور محمد الرميحي، في مقال له قبل أيام، «غياب أي جهد بحثي في تطورات وتداعيات المشهد العالمي، في مؤسسة مجلس التعاون».
وأضيف إلى استغرابه، ووجعه وأقول، إن هذا الغياب يسود مؤسسة النظام الإقليمي العربي أيضاً، ويبدو أن كلتا المؤسستين الإقليمية والفرعية، في حالة جمود مؤسفة، بعد أن اختلت شبكات التحالفات التقليدية.
هل ستبادر مراكز بحث عربية مستقلة، ودوائر تفكر أكاديمياً وصناعة سياسات، ونخب فكرية تمتلك مخزوناً من التفكر الخلاّق، وتُحسن التفكير خارج «الصندوق»، بدراسة واجتراح «رؤية لعالم عربي ما بعد الفوضى» والسيولة الدولية، وإجراء قراءات معمقة لحقائق «الساحة الجيوسياسية الواحدة» وشروط تجاوز المحن والأزمات والخلافات، ولقضايا «الحياد أو الانحياز أو الموقف الملتبس في لعبة الكبار وحساباتهم، والتوصل إلى صيغ مرنة ورشيدة للتكامل الإقليمي، في ظل ديناميات القوى والمصالح المتحركة، وتبدل التحالفات القائمة على ترتيبات نفعية وأمنية متبادلة وتطوير مقاربات منسجمة ومستدامة لرعاية عناصر أساسية في القوة والمنعة الوطنية والقومية؟
قيل «إن الرأي الصائب هو ثروة التفكير»، كما قيل أيضاً «إن الخروج من الصندوق لا يفيد، طالما أن طريقتك في التفكير لا تزال داخله».

نقلا عن الخليج