مشهدان: أحدهما جرى في شرم الشيخ المصرية، والآخر حدث في الدوحة القطرية. للوهلة الأولى لم يكن هناك ما يجمع بينهما؛ ففي الأولى كان الموضوع التغييرات المناخية، وفي الثانية كان التقليد الذي يجري كل أربعة أعوام لنهائيات كأس العالم لكرة القدم. الأول كان فيه مصير العالم معلقاً على درجة مئوية ونصف من الحرارة، إما أن ينجح البشر في خفضها خلال العقود المقبلة، أو أن عيشهم سوف يصل إلى نهاية مع فناء الكوكب. الثاني ليس بهذه الدرجة من الدراما، ولكنه الأكثر إثارة، وفيه تُحبس أنفاس الأرض لإعلان الفائز بالكأس.
هي لحظة من لحظات التفوق والعبور من مباراة إلى أخرى تتزايد صعوبتها مع الأيام. ومن وصل إلى النهائيات شعر بفخر كبير بعد مباريات تمهيدية مرهقة على المستوى القاري، ولكنه ما إن ينال المُنى، فإن كل هزيمة تبدو كما لو كانت نهاية العالم. في كلتيهما يتزاحم العالم في الحضور، صورة من صور بابل القديمة عندما كانت ألسنة أو لغات العالم تختلط، ولكنها في الأولى تلتقي على مصير تجري فيه محاولة الجمع ما بين القوى الكبرى المسؤولة عن إفساد المناخ ورفع حرارته، مثل الولايات المتحدة والصين، والأخرى تلك الدول التي وجدت نفسها ضحية الجفاف حتى تجف الأنهار والبحيرات، أو الفيضان الذي يغرق القرى والمدن. الدول الجزر هي أكثر التعساء في المحفل؛ فهي مهددة بالغرق في بحر أو محيط.
وفي الثانية، فإن حالة الفرح تبدو سائدة، وحفل الافتتاح فيه بهجة عادة ورسالة، أجادت فيها قطر؛ لأنها عبّرت عن العرب وأرسلت رسالة إلى الإنسانية. هنا تجد الثقافات المختلفة مكانها في التعبير عن نفسها من خلال ما تلبس وتغني وتهتف لفريقها، وهي تضع يدها على قلوبها متسائلة عما إذا كان القدر أو اللعب سوف يسمح لها بالانتقال من دور إلى آخر.
السكرتير العام للأمم المتحدة البرتغالي أنطونيو غوتيريش، انتقل بسهولة شديدة من شرم الشيخ إلى الدوحة، وانتقل معه رؤساء وقادة دول يحملون مسؤولية الأولى، ويتطلعون في الثانية إلى مسابقة تجتمع عليها دول العالم. ولم يكن ذلك هو الرابطة الوحيدة بين المدينتين العربيتين في التعبير عن «العولمة»؛ وإنما كانت هناك أمور أخرى: أولها أن كلتيهما كانت محط اهتمام من الإعلام العالمي، ولكن هذا الاهتمام لم يقتصر على تغطية الحدث، أو التحمس لما فيه، وإنما كان فيه الكثير مما يخرج على الموضوع. ورغم أن شرم الشيخ كانت معنية بالمناخ وما يحدث فيه، والثانية كانت تبني على مدى العشر سنوات الماضية من أجل أن تكون كأس العالم هذه المرة أفضل مما كانت في كل العهود السابقة؛ فإن مشاركين من العالم تركوا كل ذلك وانتبهوا إلى أمر واحد لا علاقة له بالحدثين: حقوق الإنسان.
«واشنطن بوست» كان لديها ما يكفي من الأحقاد «الليبرالية» لكي تفرغها على مصر وقطر، والتساؤل عما إذا كان العالم مخطئاً في أن يقيم «كوب 27» في مصر، أو كأس العالم في العاصمة القطرية. كان الموقف باختصار مدى جدارة الدولتين في القيام بما كانت تقوم به لصالح العالم. لم يكن هناك في مصر ما يشغل من إصلاح وتقدم جاء بعد فوضى وإرهاب و«كورونا»، ولا التنظيم المحكم والانضباط والقيادة الدبلوماسية في محفل يضم كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. لم يكن في الدوحة لا تنظيم رائع وهائل في بلد صغير المساحة، أنيق المظهر، وكريم السلوك، بل حرمان الجمهور من شرب البيرة المحرمة في كل ملاعب كأس العالم، ومنع الدعوة إلى «المثلية»، في حين أن المثليين يُضربون بالرصاص في «كلورادو» الأميركية! كان هناك قدر غير قليل من الاصطياد والحسرة أن حدثين من أهم أحداث العالم في هذه اللحظة يجريان في بلدين عربيين يقدمان الحضارة العربية في أفضل صورها وأكثرها جمالاً.
ما جمع الحدثين لم يكن فقط النقد والنقض من جماعات مسمومة قادمة من العالم الغربي، بل نوعاً من «العروبة الجديدة» و«الإقليمية الجديدة» بدأت تبث خيراً في عروق المنطقة. شرم الشيخ أشعلت في الجماعة العربية شرارة الدور الذي على العرب لعبه في العالم المهدد بالفناء. ورغم أن العالم العربي كان دوماً رقماً مهماً في معادلة الطاقة العالمية، فإنه كان الأكثر حرصاً طوال الاجتماعات على التأكيد على الأهمية القصوى للطاقة الخضراء والمتجددة. صحيح أن الولايات المتحدة وروسيا من الدول ذات النصيب الكبير في هذه النوعية من الطاقة، وتتزعمها إنتاجاً واستهلاكاً وتأثيراً في مناخ الكوكب، ولكنهما كانتا دوماً من المترددين في التعامل مع أنواع الطاقة الخضراء. في أميركا خاصة يوجد تيار غير قليل ومؤثر ظل يرى طوال السنوات والعقود الماضية أن قضية المناخ زائفة، وأكثر من ذلك عملية من عمليات الخداع. في المقابل كان الإعلان من قبل السعودية ومصر عن مولد «الشرق الأوسط الأخضر» مبادرة مستقبلية كريمة تؤكد أنه قد آن الأوان لكي نلحق بالثورة التكنولوجية والصناعية الرابعة، بعد أن فاتتنا الثورات من الأولى إلى الثالثة. ورغم أن القاعدة العامة في نهائيات كأس العالم كانت دائماً البعد عن السياسة، فإن قيام دولة قطر بترتيب المصافحة بين الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي، والتركي رجب طيب إردوغان، كان استكمالاً للطريق الذي بدأ مع «بيان العلا» الذي صدر عن قمة مجلس التعاون الخليجي في 4 يناير (كانون الثاني) 2021، والذي دشن المصالحة بين قطر من ناحية وكل من مصر والسعودية والإمارات، وما لبث أن شمل تركيا أيضاً، فتسارعت عودة العلاقات بين أنقرة وكل من الرياض وأبوظبي.
الحالة مع مصر كانت أكثر تعقيداً، ورغم اللقاءات الدبلوماسية على مستويات عالية، فإن الخلافات الجيوسياسية ظلت مستمرة حتى جاءت لحظة المصافحة. المؤكد أنه في هذه الأحوال، فإن مثل هذه الخطوات لا تولد ولا توجد من فراغ، ولكن يسبقها جهد دبلوماسي وسياسي كبير.
ما يثلج الصدر فيما جرى في الدوحة وشرم الشيخ أنه كان مثيراً للفرحة والفخر في الدول العربية، كان هناك التضامن في مواجهة النقد، بقدر ما كان فيه النشوة من انطلاق قدرات عربية لا يمكن تجاهلها.
كانت هناك نوعية جديدة من الشباب العربي تنظم وتقود وتبتكر، وتعرف كيف تتواصل مع بعضها البعض، وكيف تتواصل مع العالم. المؤكد أن العالم الذي أتى إلى شرم الشيخ باحثاً عن خير البشرية، شعر بقوة أن مهد الحضارة كانت خير حاضنة لأهم القضايا العالمية، ومبعث النداء لوقف الحرب التي أعيت العالم. الانبهار بما فعلته قطر في الافتتاح والتنظيم، ومساندة كل الفرق العربية، كان حقيقة لم نشهدها منذ وقت طويل.
نقلا عن الشرق الأوسط