تعدد المهام:
منظمة “تيكا” بين التأثير الناعم والانخراط الخشن بالمنطقة العربية

تعدد المهام:

منظمة “تيكا” بين التأثير الناعم والانخراط الخشن بالمنطقة العربية



تعتبر وكالة “تيكا” التركية احدي أهم أدوات السياسية الخارجية للنظام التركي الحاكم بناء علي تعرّف الوكالة التركية “تيكا” نفسها من خلال موقعها الرسمي بأنها “إحدى أدوات تطبيق السياسة الخارجية التركية في العديد من الدول والمناطق، وعلى رأسها الدول التي تشترك مع تركيا في القيم والثقافة. وجاء تأسيسها عام 1992 لتنسيق وتطبيق أولويات السياسة الخارجية والأنشطة التي ستتم في منطقة وسط آسيا، من أجل مساعدة الجمهوريات التركية التي استقلت في أعقاب تفكك اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية عام 1991، في إنتاج بنيتها الاجتماعية بنفسها، وإنشاء هويتها الخاصة بشكل سليم، وتطوير الحقوق الثقافية والسياسية، وإتمام النقص في أمور البنية التحتية الفنية”.

طبيعة الدور

وقد مرّت طبيعة الأدوار التي تلعبها المؤسسة منذ تأسيسها بعدة تطورات، يُمكن إبرازها على النحو التالي:

1- تعميق الدور من خلال التغلغل المؤسسي: مع بداية الألفينيات وبدء مرحلة العولمة التي كان لها انعكاساتها على تزايد درجة تأثير وانتشار المؤسسة في العديد من الدول في الشرق والغرب، وبالتوازي مع التسارع في حركة التنمية بالدول الناطقة بالتركية في تلك الفترة؛ تحولت مشاريع الوكالة بالمنطقة إلى مشاريع لرفع الكفاءة المؤسساتية بتلك الدول، وهو ما عزّز من درجة تغلغل الوكالة في تلك الدول.

2- تغليب الطابع الأمني والمعلوماتي على دور الوكالة: بالتوازي مع الأدوار التقليدية للوكالة، اتجهت إلى تغليب الطابع الأمني والمعلوماتي لدورها من خلال تعزيز الدورات التدريبية للضباط من منتسبي جهاز الشرطة في العديد من الدول، بالتعاون مع المديرية العامة للأمن العام والقيادة العامة للدرك التركية. ومن أبرز هذه الدول: أذربيجان، وفلسطين، وكوسوفو، وألبانيا، والجبل الأسود، وأوزبكستان، ومنغوليا، وتونس، ومولدوفا، والبوسنة والهرسك، بالإضافة إلى أفغانستان.

 وعلى الصعيد المعلوماتي، فقد نظمت الوكالة عددًا من الدورات المرتبطة بجمع المعلومات، ومنها دورة المراسل الحربي بالتعاون مع وكالة الأناضول وأكاديمية الشرطة، بمشاركة صحفيين من دول عدة من بينها: أفغانستان، وإثيوبيا، وجورجيا، وسوريا، وميانمار، ونيجيريا، والجزائر، وفلسطين، والأردن، والفلبين، وباكستان، وأذربيجان.

وهنا، تجدر الإشارة إلى الدور الذي لعبه رئيس الوكالة السابق ورئيس المخابرات التركية الحالي “هاكان فيدان”، حيث ساهم خلال فترة رئاسته للوكالة من 2003 حتى 2007 في تأسيس بنية استخباراتية قوية للمؤسسة، مستفيدًا في ذلك من خبراته العلمية التي راكمها خلال رسالتي الماجستير والدكتوراه اللتين كانتا تدوران حول تعزيز أدوار جهاز الاستخبارات التركي، ودفع خلالهما بعدم كفاية الاستخبارات التركية، والحاجة إلى إعادة هيكلتها كالاستخبارات الداخلية والخارجية، على غرار المخابرات المركزية الأمريكية “سي آي إي” ومكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي”، بحيث يكون للاستخبارات القدرة على القيام بعمليات خارجية.

حدود الانتشار

شهدت الوكالة خلال السنوات العشر الماضية قفزة كبيرة في مراكز انتشارها ومكاتب تمثيلها في العديد من الدول، حيث ارتفع عدد مكاتبها من 12 مكتبًا في عام 2002 إلى 25 مكتبًا في عام 2011، ثم 33 مكتبًا في عام 2012. واليوم، تواصل “تيكا” أنشطتها عبر 62 مكتبًا في 60 دولة، بحجم مساعدات ارتفع من 85 مليون دولار في عام 2002 إلى حوالي 4 مليارات دولار في عام 2015، و7,8 مليارات دولار في سنة 2017، على أمل أن تستهدف 150 دولة في 5 قارات، من المحيط الهادي إلى آسيا الوسطى، ومن إفريقيا والشرق الأوسط إلى البلقان، ومن القوقاز إلى أمريكا اللاتينية.

مستويات التأثير

تسعى أنقرة منذ وصول الحزب الحاكم “العدالة والتنمية” إلى الحكم في عام 2002 إلى توسيع دائرة الهوية التركية الأوراسيانية، بحيث تشمل منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، والتحول نحو الهوية “الأفرو–أوراسية” الواسعة بحيث لا يرتبط نشاطها فقط بآسيا الوسطى والقوقاز، وإنما يمتد إلى باقي دول جوارها الجغرافي في منطقة الشرق الأوسط ودول القارة الإفريقية. حيث إن وزير الخارجية السابق “أوغلو” يرى أن الوضع المميّز لتركيا في قلب جزيرة العالم، يفرض عليها أن تلعب أدوارًا أكثر أهمية في السياسة الدولية، وأن تتميز بالفعالية والإيجابية التي لن تتحقق إلا بالالتزام بعدد من المبادئ الأساسية التي يأتي في مقدمتها ضرورة التأثير في الأقاليم الداخلية والخارجية لدول الجوار، وإنتاج الأفكار والحلول في محافل الشرق، بالإضافة إلى تعزيز السياسة الخارجية متعددة الأبعاد (الإنسانية، الإغاثية).

وخلال العقد الأخير مثّلت التحولات الراديكالية التي شهدتها المنطقة العربية بفعل عامل الثورات من ناحية انهيار أنظمة الحكم التقليدية في عدد من الدول العربية، والتي تبعتها حالة من السيولة في المشهد السياسي والاجتماعي لهذه الدول؛ فرصة سانحة لاستعادة أنقرة الهوية والثقافة السياسية والمؤسسات التي نتجت عن تحمل دور المركز السياسي في عهد السيطرة التاريخية لها خلال الإمبراطورية العثمانية وذلك عبر بوابة المنطقة العربية.

وقد عزّز ذلك الوضع الذي شهدته هذه البلدان في تلك المرحلة من نفاذية الوكالة التركية “تيكا”، وتغلغلها داخل المجتمعات العربية من خلال مدخل الإغاثة والمساعدات الإنسانية، عبر تعزيز مراكز انتشارها ومكاتبها في العديد من دول المنطقة، والتي شهدت أعدادها قفزة كبيرة خلال السنوات العشر الماضية، حيث تتواجد الوكالة بمكاتبها التنسيقية في كلٍّ من الجزائر وتونس والأردن والعراق واليمن ولبنان وليبيا وفلسطين والسودان وجنوب السودان.

وتمكّنت الوكالة من نسج علاقات تشابك مصلحية مع الدولة القطرية من أجل تعزيز مظلة الدعم المالي لها بشكل يُسهم في توسيع أنشطتها في العديد من دول المنطقة، وانعكس ذلك من خلال توقيع الوكالة مذكرة حسن النية في مجال التعاون تجاه أزمات المنطقة، وفي مقدمتها الأزمة اليمنية مع مؤسسة قطر الخيرية التي تُعتبر من أهم منظمات المجتمع المدني الخيرية في الدوحة.

وسعت الوكالة خلال السنوات العشر الماضية إلى تعميق تغلغلها في شؤون المنطقة، وخاصة دول الجوار الجغرافي لأنقرة، عبر بوابة الأزمات التي شهدتها تلك الدول، ويقف وراء ذلك جملة من الأهداف التي يمكن إيضاحها على النحو التالي:

1- تعزيز مساحات الحركة للدور التركي في المنطقة على النحو الذي يسمح لأنقرة بتوفير هامش من المناورة في مواجهة الضغوط الغربية والأمريكية.

2- توفير بدائل حركة لتخفيف الوضع الاقتصادي المأزوم في الداخل التركي، وذلك من خلال ضمان حضور الشركات التركية في عمليات إعادة الإعمار المقررة في تلك الدول، واستغلال الأسواق الاستهلاكية هناك لترويج المنتج التركي، فضلًا عن تأمين حصص لشركات النفط التركية في التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي بتلك الدول.

3- تهيئة مجتمعات تلك الدول عبر الدور الثقافي والترويجي الذي تقوم به الوكالة للهوية والنموذج التركي، لتقبل الانخراط التركي الخشن عبر التواجد بقواعد عسكرية في تلك البلدان.

4- سهولة الوصول عبر مكاتب الوكالة إلى الوكلاء المحليين في تلك البلدان، وتوفير المعلومات المتطلبة لتأمين المصالح الحيوية لأنقرة.

5- تسهيل عمليات الحشد والتعبئة التي تقوم بها أنقرة بين صفوف المقاتلين الأجانب والمحليين في مناطق الصراع على غرار الأزمة السورية، وانعكس ذلك من خلال عمليات التعبئة التي قامت بها أنقرة هناك للمقاتلين، وتوظيفهم في مناطق صراع أخرى كالأزمة الليبية.

6- موازنة الدور الذي تلعبه المؤسسات الخيرية والثقافية التابعة لخصم الرئيس التركي “أردوغان” السياسي “فتح الله غولن”، والتي ارتأى فيها “أردوغان” منافسًا مزاحمًا للدور الرسمي للدولة، خاصة بعد فشله في التحكم فيها، وهو ما عبّر عنه “أردوغان” في تصريحاته في عام 2016 حينما قال لمسؤوليه: “إذا قالت منظمة فتح الله إننا متواجدون في 170 دولة، فعليكم التواجد في جميع الدول الـ193 الأعضاء في الأمم المتحدة”.

إجمالًا، سعت أنقرة خلال العقد الأخير( 2011-2021) إلى توسيع دائرة حركتها من خلال سياسة خارجية نشطة أطلق عليها المسئولون الأتراك “الدبلوماسية العامة متعددة الأبعاد” لتشمل المنطقة العربية التي تكتسب أهمية استراتيجية بالنسبة للمصالح التركية، لما يوفره التواجد ضمن فواعل هذه الدائرة من هامش للمناورة في مواجهة الضغوط الغربية والأمريكية، فضلًا عن المكاسب الجيواستراتيجية الأخرى المرتبطة بالطموح الإقليمي للدولة التركية. ونظرًا لتعقيدات المشهد في بؤر الصراع الدائرة في المنطقة، كان من الصعوبة بمكان حدوث الانخراط التركي الخشن على غرار ما نشهده في الوقت الراهن دون أن يسبق ذلك تمهيدٌ عبر أدوات التأثير والقوة الناعمة لأنقرة، وهو ما حققته الوكالة التركية “تيكا” خلال السنوات العشر الماضية بشكل فعّال في عدد من بؤر الصراع (سوريا، ليبيا، العراق، اليمن). وسيظل هذا التأثير وفعاليته مقرونًا بحالة الفراغ العربي والدولي في تلك المناطق، وخاصة في المجالات الإغاثية والإنسانية والتنموية، وهو ما تستغله أنقرة لإيجاد موطئ قدم لها من خلال سدها لهذا الفراغ عبر الخدمات التي تقدمها الوكالة التركية “تيكا”.