مرحلة رمادية:
ملامح الفترات البينية في عمليات الانتقال السياسي بدول الأزمات

مرحلة رمادية:

ملامح الفترات البينية في عمليات الانتقال السياسي بدول الأزمات



على وقع تعمق الخلافات بين القوى السياسية في دول الأزمات، تبقى هذه الدول على مفترق طرق: فإما تمتد المراحل الانتقالية كما هو الوضع الحالي في ليبيا، بعد تجاوز موعد الاستحقاق الانتخابي الذي كان مقرراً في 24 ديسمبر الماضي، والدخول لاحقاً في معترك تشكيل حكومة انتقالية بدلاً من حكومة تصريف الأعمال، أو تنتهي المرحلة الانتقالية لتبدأ أزمة جديدة، كما هو الحال في العراق، حيث لا تزال عملية استكمال تشكيل السلطة متعثرة بعد مرور أكثر من أربعة أشهر على إجراء الانتخابات (10 أكتوبر 2021) بحيث لم تعد هناك إمكانية لعملية انتقال سياسي سلسة، يتم الانتقال منها مباشرة إلى مرحلة الاستقرار، بل ربما تحدث ارتدادات إلى حالة التوتر الأمني، وبالتالي تشكلت هناك مراحل رمادية في عمليات الانتقال السياسي قد تطرح سيناريوهات مختلفة بشأن تلك العمليات برمتها.

نمط مختلف

من حيث الشكل، تبدو الحالتان العراقية والليبية مختلفتين. فالأولى شهدت إجراء الانتخابات، بينما كان يتم التعويل في الثانية على الوصول إلى هذه المرحلة دون جدوى. كذلك في نهاية المطاف ستشكل حكومة عراقية، بينما في ليبيا من المحتمل أن تتجه الأزمة إلى وجود حكومتين. كما أن شبح الاحتراب في الحالة الليبية قد يكون محتملاً حتى وإن تغير عن مساره السابق، بينما يمثل خطاً أحمر داخل البيت الشيعي العراقي خشية تصدعه.

فضلاً عن ذلك، فإن الحكومة الانتقالية في العراق لا تعارض تسليم السلطة، لكن العكس بطبيعة الحال في ليبيا، بل إن حكومة تصريف الأعمال برئاسة عبد الحميد الدبيبة تبرر موقفها بأن الانتخابات لم تتم، وتجادل بقدرتها على إنجازها. لكن تبدو الدوافع من حيث المآلات الحالية في الحالتين متقاربة إلى حد كبير، في ضوء التنافس الحاد الذي يصل إلى مستوى ما من الصراع على السلطة، بالإضافة إلى طبيعة الفاعلين في كلا المشهدين، والذين يشكلون مراكز قوى تسعى إلى حسم الأمور لصالحها، بالاعتماد سواء على تحالفاتها أو على أطراف خارجية.

سمات متعددة

تتمثل أهم الخصائص التي تتسم بها تلك المرحلة الرمادية في عمليات الانتقال السياسي بدول الأزمات في:

1- محاولة تجاوز التعثر القائم: غالباً ما كان ينظر إلى المرحلة التي تسبق عمليات الانتقال السياسي باعتبارها مرحلة تمهيدية لتجاوز حالة التعثر، والوصول إلى الحد الأدنى من التوافقات على إطلاق عملية سياسية جديدة، يتم الاحتكام إلى نتائجها السياسية، بدلاً من الاحتكام إلى السلاح. فقد بدأت المرحلة الانتقالية الحالية في ليبيا بعد أن سكتت مدافع التصعيد المسلح في معركة طرابلس، وكذلك في العراق بعد أن أطاحت “انتفاضة تشرين” بحكومة عادل عبد المهدي، وتزايد الخوف من الانزلاق إلى حالة احتراب في ظل تنامي حالة التوتر التي شهدتها البلاد. لكن الواقع الراهن يشير إلى الحاجة إلى مرحلة تمهيدية أخرى في نهاية المطاف بعد أن أصبحت نتائج المراحل الانتقالية غير مرضية لبعض الأطراف المنخرطة في الأزمة. ومن اللافت أن حالة عدم الرضا من جانب هذه الأطراف تستدعي التلويح باستخدام القوة إن لم يتم وضع مطالبها في الاعتبار.

2- استدعاء الملفات السياسية “المُغلقة”: وهو أمر لافت في الحالتين العراقية والليبية. ففي الحالة العراقية، هناك أصوات تطالب بإجراء تغيير في الدستور في ضوء إشكالية أو غموض المادة (76) حول طبيعة الكتلة التي يجب أن يكلفها رئيس الدولة بتشكيل الحكومة. وفي الحالة الليبية أيضاً، فإن مفاوضات “المرحلة الرمادية” تضمنت أهمية العودة إلى وجود دستور أو قاعدة دستورية ضمن خريطة الطريق التي وضعها البرلمان (10 فبراير 2022)، بالإضافة إلى عملية اللجوء إلى القضاء كما هو الحال في الاحتكام إلى المحكمة الاتحادية العليا في العراق لحسم إشكالية أزمة منصب الرئيس. وفي الحالة الليبية، هناك أزمة هيكلية في المحكمة العليا في ظل المطالب بتفعيل دورها في المرحلة الحالية.

3- إعادة صياغة تحالفات جديدة: ظهر ملمح التحالفات الجديدة ضمن الإطار الزمني للمرحلة الرمادية. فمؤخراً، أعلن “الإطار التنسيقي” في العراق عن احتمال الخروج من المأزق السياسي الحالي عبر تشكيل تحالف جديد تحت عنوان “تحالف الثبات الوطني”، أو بالأحرى توسيع التحالف ليضم 133 نائباً لتشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان، وبالتالي تجاوز عقبة “الكتلة الأكبر” التي شكلت منعطفاً رئيسياً في الأزمة. وعلى النحو ذاته، سبق إعلان البرلمان الليبي عن إطلاق مرحلة انتقالية جديدة تشكل تحالفات جديدة ما بين الشرق والغرب، غيرت من طبيعة موازين القوى، في ظل تقارب فتحي باشاغا رئيس الوزراء المكلف من البرلمان مع المشير خليفة حفتر القائد العام للجيش الوطني، وبالتالي ستشكل التحالفات الجديدة منظوراً مختلفاً في السيناريو التالي للعملية السياسية في كلتا الحالتين.

4- تباين المسارات النهائية المحتملة: تُساهم المرحلة الرمادية في تحديد السيناريوهات التالية، وربما تتحول إلى مرحلة من “التبريد” السياسي للأزمة، من حيث منح فرصة للأطراف للتفاوض وربما تعزيز قدرة الوسطاء على المساعدة في تجاوز الأزمة، أو ترقب لمدخل جديد للعملية السياسية كصدور حكم من المحكمة العليا. وربما تنجح تلك النتائج وتقود بالفعل لتسوية سياسية، أو العكس حيث تستغل بعض الأطراف العملية السياسية في التعبئة والشحن ومحاولات استقطاب أطراف وقوى بعضها شبه عسكري كنوع من استعراض القوة من جانبها، وكورقة ضغط أو محاولة تهديد خصومها.

فعلى الرغم من أن الزعيم الشيعي مقتدى الصدر يرفض التسوية السياسية عبر عودة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي (ائتلاف “دولة القانون”) إلى رئاسة الحكومة؛ إلا أنه أبدى في فترة سابقة تجاوباً مع فكرة الذهاب بكتلته السياسية إلى مقاعد المعارضة، لكن على ما يبدو فإن هذا الحل قد يعيد إنتاج أزمة 2019 مع حكومة عادل عبد المهدي. وفي الحالة الليبية، هناك محاولات وساطة من المجلس الرئاسي وزعامات شعبية في مصراتة لتسوية الأزمة بين الدبيبة وباشاغا، لكن على الأرجح فهى لا تزال تدور في فلك الأزمة بين الأول والبرلمان، وبالتالي تظل النهايات متأرجحة ما بين التبريد والاشتعال.

معضلة واردة

إجمالاً، من المتصور أن تسوية أزمات السلطة في المرحلة الانتقالية هى معضلة واردة في الصراعات والنزاعات الإقليمية، وتمثل أزمة كاشفة عن تحديات هائلة في “قواعد اللعبة” في عملية إعادة بناء السلطة، وبالتالي تطرح تساؤلاً حول جدوى العمليات السياسية الانتقالية، وطريقة هندسة هذه المراحل، بما يعني أن ظاهرة المرحلة الرمادية كأحد التداعيات الناجمة عن معضلات عمليات الانتقال السياسي تظل ظاهرة صحية من حيث عدم العودة إلى حالة التوتر، لكن من المؤكد أن ذلك يتوقف في المحطة الأخيرة على النتائج التي ستؤول إليها هذه المرحلة.