لا يزال من غير الواضح في المرحلة الحالية ما هى الصيغة النهائية التي سوف يستقر عليها مستقبل الوجود العسكري الغربي في المنطقة، حيث تتباين التقديرات الغربية في رؤيتها للوضع الراهن بعد عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بين اعتباره إعادة انتشار، وليس انسحاباً كاملاً من المنطقة، أو عملية إعادة تموضع وانخراط بحسب الأهداف المرحلية، ومنها مكافحة الإرهاب، في إطار التعاون العسكري مع القوى الإقليمية الحليفة. وهناك اتجاه ثالث يرى أن ما يجري، سواء كان إعادة انتشار أو انخراط بطريقة مختلفة عن الوضع التقليدي الذي عرفته المنطقة في العقود الأخيرة، هو فترة انتقالية ستستغرق عدة سنوات ربما يعقبها انسحاب متدرج ينهي الوجود التقليدي للقوى الغربية عسكرياً في المستقبل، في ضوء تحول الاهتمامات الأمريكية بالأساس، والغربية بشكل عام، إلى وجهات أخرى.
وفي واقع الأمر، فإن توجه القوى الغربية لتغيير شكل الوجود العسكري الثابت في العديد من المواقع، والاستعاضة عنه من خلال عملية إعادة انخراط، لا يشكل سابقة، فقد أنهت الولايات المتحدة وجودها العسكري في ليبيا في وقت لاحق على تعرض سفارتها في بنغازي للتفجير عام 2012، وحصرت دورها في ليبيا في الحرب على الإرهاب ومواجهة تنظيم “القاعدة” باستخدام الطائرات من دون طيار في إطار عملية تعزيز دور القيادة الأمريكية في أفريقيا. كذلك على الصعيد السوري، وعلى الرغم من إعلان إدارة الرئيس دونالد ترامب الانسحاب العسكري من هناك، إلا أنها أعادت انتشار القوات في إطار مهمة دعم الأكراد كحليف في مواجهة تنظيم “داعش” في سوريا، وهو ما اقتضى إعادة تهيئة القواعد الأمريكية في مناطق الشمال السوري وعدم إنهاء مهمة التحالف الدولي للحرب على “داعش”. وأيضاً في اليمن، استمرت الضربات الأمريكية في إجهاض تنظيم “القاعدة”، واستهدفت العديد من قياداته دون أن يكون لها وجود عسكري ثابت على الأرض.
على التوازي، اتجهت فرنسا مؤخراً إلى تبني عملية الانسحاب من منطقة الساحل الإفريقي، لاسيما مالي، في ظل الحوادث العديدة التي تعرضت لها قواتها هناك، بالإضافة إلى سيولة المشهد السياسي، ووقوع العديد من الانقلابات، فيما تدعم حالياً عملية مكافحة القوات المتمردة ضد المجلس الانتقالي في تشاد، على الرغم من خفض مستوى حضورها العسكري على هذه الجبهة والإعلان عن انتهاء عملية “برخان”، لكنها اضطرت مرة أخرى، في يوينو الماضي، إلى الإعلان عن استئناف العمليات العسكرية تحت ضغط الفوضى التي يمكن أن يشكلها الانسحاب العسكري الكامل، وهو ما اعتبره مراقبون اضطراباً في الرؤية الفرنسية، بينما اعتبر آخرون أنه ليس إعلان انسحاب صريحاً وإنما تلويح بالانسحاب في إطار التطورات التي تشهدها المنطقة. وربما كانت فرنسا من الدول التي أعلنت منذ سنوات عن انسحابها من أفغانستان، مع بداية العد التنازلي للانسحاب الأمريكي على مراحل متتالية، كما أنه لا يمكن إغفال أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان واكبه انسحاب العديد من الأطراف الدولية التي كانت مشاركة في الحملة الدولية هناك.
دوافع مختلفة
في هذا السياق، من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدد من الدوافع التي ربما شكلت هذا الاتجاه لدى الدول الغربية، ومنها على سبيل المثال:
1- ضغوط تكاليف الانخراط العسكري: باتت كُلفة البقاء العسكري المستدام في مناطق الصراع في الشرق الأوسط تشكل عبئاً على ميزانيات الدفاع لدى الدول الغربية بشكل عام. فالدول المشاركة من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو تحملت عبء تمويل عسكري إجمالي ربما أقل من الولايات المتحدة، لكنه بحسابات الإنفاق العسكري لا يشكل نسبة مهمة إذا ما قورن بإجمالى الإنفاق العسكري الأمريكي خلال تلك الحقبة. يضاف إلى ذلك عبء الكُلفة البشرية، وهو الأمر الذي لا يختلف كثيراً عند الحديث عن الانسحاب العسكري الفرنسي من إفريقيا في ظل تعرض قواتها لضربات متعددة كان أبرزها مطلع العام الجاري بمقتل 50 جندياً من قوة “برخان”.
2- تراجع تأثير القواعد الثابتة: يتمثل أحد الدروس المستفادة أيضاً، لاسيما من الحالة العراقية، في أن وجود قواعد عسكرية ثابتة لم يعد يحقق الأهداف المطلوبة للوجود العسكري الغربي، بل على العكس من ذلك، تحول إلى عبء عسكري يتطلب تعزيزات وتمويلاً مستمراً لعملية الدفاع من أجل البقاء والوجود فقط، حيث تحولت القواعد العسكرية إلى هدف لخصوم القوى الغربية في العراق من الميليشيات الموالية لإيران، على نحو شكل باستمرار عامل ضغط.
3- التغير في شكل ونمط التسليح: تحولت المعارك في المنطقة إلى معارك غير تقليدية، تستخدم فيها أسلحة غير تقليدية، تستنزف الوجود الغربي في كل الأحوال، وبالتالي لم يعد الوجود العسكري، بشكله التقليدي، ملائماً للتعامل مع هذا الوضع، بل يفرض في المقابل وجوداً غير تقليدي، ولا يتطلب بالضرورة تعدداً للقواعد العسكرية في المنطقة.
4- انحصار أهداف الوجود المستقر: على نحو ما سبقت الإشارة إليه، أصبح هناك توجه بأن يكون هناك غاية من الوجود العسكري، وبالتبعية يتعين أن يلاءم هذا الوجود نمطاً عسكرياً معيناً من الانتشار أو الانخراط. فعلى سبيل المثال، تقول الولايات المتحدة أن أحد أهدافها الرئيسية من الوجود العسكري في سوريا يتعلق بالعمل على الحيلولة دون وصول تنظيم “داعش” إلى مصادر النفط في سوريا بما يشكل رافداً اقتصادياً يدعم عملية صحوة التنظيم بشكل سريع.
إشكاليتان رئيسيتان
يفرض هذا التوجه إشكاليتين رئيسيتين:
الأولى، تنصرف إلى ملء الفراغ، حيث يشير أحدث تقديرات الاستخبارات الأمريكية الذي تم استعراضه في القمة السنوية للاستخبارات والأمن القومي، إلى أن الدور وليس شكل الوجود، هو ما يكشف عن أهمية الاستمرار في الانخراط العسكري في إطار عملية مكافحة الإرهاب، في أفغانستان واليمن وسوريا والعراق والصومال وليبيا وغيرها في بعض المواقع في إفريقيا. لكن أغلب التقديرات الغربية الحالية تكشف أن أحد انعكاسات الانسحاب العسكري الغربي هو جاهزية قوى دولية بديلة لملء الفراغ في تلك المناطق، حيث يشار إلى روسيا والصين في حالة أفغانستان، وروسيا وإيران وتركيا في حالة سوريا، بالإضافة إلى تعزيز نفوذ إيران أكثر مما هو عليه الوضع في العراق، وأيضاً روسيا عبر مجموعة “فاجنر” في الحالة الإفريقية.
والثانية، تتمثل في إشكالية الرؤية، إذ أشار الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في خطاب الإعلان عن خفض الوجود العسكري في إفريقيا، إلى أن “الوضع سيتغير ولن يبقى على ما كان عليه”، لكنه لم يوضح ما هو الوضع المستقبلي الذي سيؤول إليه التغير. في الوقت ذاته، هناك معضلة توافق داخل الإدارات الغربية بشكل عام على وضع رؤية استراتيجية مستقبلية. فعلى سبيل المثال، تعكس تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي أنه على الرغم مما حدث خلال عملية “برخان” وما وُجِّه من انتقادات لها، إلا أن الوضع يظل أفضل مما لم تكن موجودة بالأساس. كذلك الوضع في العراق، كانت هناك تصريحات متتالية من القادة الميدانيين الأمريكيين في العراق، لاسيما الجنرال كينيث ماكنزي قائد القيادة المركزية الأمريكية، بأنه لا تزال هناك حاجة للإبقاء على القوات الأمريكية والقواعد الأمريكية في العراق، لكن ما حدث لاحقاً كشف عن تبني توجه مختلف، وهو ما اعتبره مراقبون أمريكيون بمثابة تسييس للواقع ورغبة في الانتقام لتعرض القواعد الأمريكية للاستهداف، ومؤشراً على عدم الرغبة في الانسحاب تحت وطأة الهزيمة إن جاز التعبير. وعلى الجانب الآخر، فإن بقاء القوات تحت مسميات مختلفة أو حدوث تحول في العمليات سوف تعتبره القوى المناوئة لها هو مجرد تحايل على الهدف المطلوب وهو إنهاء الوجود العسكري، وبالتالي ستواصل عملياتها الهجومية في ظل البقاء تحت أى غطاء أو مبرر على نحو ما أشارت إليه ميليشيا “عصائب أهل الحق” في العراق.
في النهاية، من المتصور أن المرحلة الحالية هى مرحلة ضبابية بالنسبة لمستقبل الدور والوجود العسكري الغربي في المنطقة. وبغض النظر عن معضلة التكييف، لا يزال من غير الواضح ثبات الأهداف، فهل تتركز حول مكافحة الإرهاب، أم دعم حكومات وأنظمة حليفة، أم حماية مصالح، وربما كافة تلك الأهداف، بحسب أولوية كل مرحلة. فعلى سبيل المثال، تمت الإشارة مؤخراً في أحد البيانات العسكرية الأمريكية إلى أن الوجود العسكري الأمريكي يركز على أمن الممرات الملاحية، وبالتالي أصبح هذا البعد، في مرحلة من المراحل، على نحو ما جرى في معركة السفن بين إيران وإسرائيل في الفترة الماضية، يشكل أولوية. لكن أيضاً يمكن القول إن القاسم المشترك هو البعد التكتيكي في التعامل مع تلك الأولويات، إذ إنه لم يعد هناك توجه بالبقاء الدائم، ومع كل تطور على المسرح الإقليمي المضطرب والمتوتر بطبيعة الحال سيكون هناك متغير مصاحب في طبيعة الوجود العسكري الغربي.