دفع صمويل هنتنغتون عام 1996 بأن صدام الحضارات حتمي لاختلاف الهوية الثقافية والدينية للشعوب، ورجح أن تعدد الثقافات وما يرتبط بها من تباين القيم والعادات والتقاليد سيشكل المصدر الرئيس للخلافات المستقبلية، وتوقع أن تنكمش الدولة الوطنية أمام الشد والجذب بين المتطلبات المتعارضة للقبلية والعشائرية والعولمة، وقبل ذلك طرح بعض المثقفين مثل فرانسيس فوكوياما أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ وأن الليبرالية الديمقراطية هي الفلسفة السياسية التي ستسود العالم.
اختلف مع فوكوياما لأنني لا أرى في الأساس أن الليبرالية الديمقراطية تطبق بأمانة حتى داخل كثير من الدول الغربية، حيث يتبنى عدد كبير منها مواقف وممارسات بعيدة كل البعد من الديمقراطية والليبرالية، فضلاً عن تجاوزات عديدة لمبادئ الليبرالية في علاقاتها الخارجية، وتطبيقها معايير متناقضة وأحياناً متعارضة بحسب الحالة والظرف، وهو ما جعل دول الجنوب الساعية لمزيد من الحريات والانفتاح، بما يتماشى مع الفلسفة الليبرالية واحترام القانون، التي ترفض الاستيلاء على الأراضي بالقوة، دفعها إلى تجنب دعم الغرب في الأحداث الأوكرانية، لشعورها أن هذه المجموعة تكيل بمكيالين، ومن ثم لا مبرر من تحمل تداعيات مواقف مبدئية تخدمها، وتعكر علاقات دول الجنوب مع روسيا على رغم عدم ارتياحها لما قامت به في أوكرانيا.
وأتفهم نظريات هنتنغتون وإنما يصعب عليّ تبني طرحه كاملاً، لشعوري أن الصراعات والمنافسات حول المصلحة والمادة ما زالت قائمة، وأن النزاعات ليست بسبب تعدد الثقافات فحسب، وإنما لعدم تطور القيم واستقرار والممارسات الإنسانية بالقدر اللازم في القرن الـ21، بما يؤمن ويحصن الاحترام المتبادل في التعامل مع بعضنا البعض، مع التنوع والتباين في الحضارات والثقافات والتقاليد، وحيث لم نتجاوز فكرة هيمنة حضارة دولة أو مجموعة من الدول على الآخرين، ولقناعتي أن التذرع باختلاف القيم ليس إلا حجة ووسيلة أقل فجاجة عن المصارحة بالرغبة في هيمنة حضارة على حضارات أخرى تحقيقاً لأهداف اقتصادية مادية وسياسية استراتيجية.
ومنذ سنين قليلة مضت كان هناك اعتقاد أن عالمنا أكثر خيراً مما مضى، خصوصاً لما يوفره من فرص للتنمية والتقدم، ونجاح عصر العولمة في رفع عدد كبير من سكان العالم فوق خط الفقر، وكنت أميل إلى هذا التوجه إلا أن تواصل وتفاعل المجتمعات والثقافات، وانتشار وسائل إيصال المعلومات بمعدلات سريعة طرح أيضاً تحديات جديدة لم ينجح العالم في التفاعل معها على النحو المطلوب بمعدلات مقبولة، وهو مؤشر واضح لأهمية نشر المعرفة الأعمق والتسامح الأوسع والحكمة الناجزة في اتخاذ القرارات، حتى نتجنب شعور الأضعف بالتهميش، ونبتعد عن الاستقطاب المجتمعي، الذي يغذي السياسات الشعبوية الخطرة.
والشعبوية هي طرح مبسط لمشكلات المجتمع، يسهل للمواطنين استيعابها، والاستقطاب المجتمعي من أدواتها وممارساتها الأكثر فاعلية، سواء كان ذلك اقتصادياً بين الفقراء والأغنياء، أو ثقافياً بين مواطني البلد الواحد، أو إقليمياً ودولياً بين الأطراف الأجنبية، ومما لا شك فيه أو جدل حوله أن الشعبوية مؤشر صارخ وقاطع بوجود مشكلة مجتمعية وقدر غير قليل من التهميش والاستقطاب والرفض للأوضاع القائمة في الساحة التي تظهر فيه، كان ذلك على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي.
هي طرح مبسط لمشكلات المجتمع، يسهل للمواطنين استيعابها، والاستقطاب المجتمعي من أدواتها وممارساتها الأكثر فاعلية، سواء كان ذلك اقتصادياً بين الفقراء والأغنياء، أو ثقافياً بين مواطني البلد وأطراف أجنبية، ومما لا شك فيه أو جدل حوله أن الشعبوية مؤشر صارخ وقاطع إلى وجود مشكلة مجتمعية بقدر غير قليل من التهميش والاستقطاب والرفض للأوضاع القائمة.
ولا تقتصر الشعبوية على نظام سياسي معين أو منطقة جغرافية محددة، فهناك تيارات شعبوية انعزالية وصدامية في مختلف أنحاء العالم، بين الدول الكبرى، وفي مناطق جغرافية متعددة مثل أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وكان من أبرزها في العقد الماضي انتخاب دونالد ترمب رئيساً لأقوى وأغنى دولة في العالم، الذي دفع بأن النظام السياسي الأميركي لا يمثل سوى النخبة السياسية والاقتصادية، وعلى رغم أنه من أسرة أميركية ثرية، وكان من أشد مؤيديه الرافضين للنخب الأميركية والانتشار الأميركي الدولي، لذا كانت أبرز رسالة تحت عنوان “أميركا أولاً وإعادة العظمى لأميركا”، وهي دفوعات شعبوية انعزالية واضحة تستغل شعور نسبة غير قليلة من المجتمع، وإن كانت من المتناقضات السياسية أنه نجح أيضاً في جذب عدد لا بأس منه من طبقة اقتصادية ثرية تسعى إلى تقليص الخدمات الحكومية التي يستفيد منها أساساً المهمشون.
وقد عاصرنا تنامي التيارات الشعبوية وتأييد الأحزاب اليمينية في عدد من الدول الغربية الغنية الأخرى، منها على سبيل المثال وليس الحصر فرنسا وإيطاليا والسويد، ومن اللافت التطورات السياسية الحديثة في ألمانيا التي شهدت خلال العامين الماضيين صعوداً سياسياً لـ”البديل من أجل ألمانيا” (AFD)، وهو أكبر حزب على أقصى اليمين السياسي الذي صرح رئيسه بيورن هوكه، أخيراً، بأن “الاتحاد الأوروبي الذي نعرفه يجب أن ينتهي لمصلحة أوروبا الحقيقية”، في ممارسة شعبوية وشبه عنصرية تدعو إلى هدم نظام قائم لمصلحة غيره، لا تختلف كثيراً عن تصريحات ترمب، وشبيهة لتصريحات زعامات ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، وجميعها خليط من الرغبة في التغيير والتطلع إلى الريادة والعنصرية الصدامية.
وإذا كان الشعور بالتهميش المجتمعي الذي يغذي الشعبوية والانعزالية قد ازداد في الدول الصناعية الغنية، فليس غريباً أن نراه ينتشر أيضاً في مناطق ودول عديدة أقل ثراء وتطوراً، وهو ما شهدناه أخيراً في أميركا اللاتينية الأرجنتين، وما يجعلني أقلق من تنامي التيارات الشعبوية دولياً، لأنها تفتح الباب على مصراعيه لممارسات هادمة للأنظمة المستقرة بدلاً من تطويرها، وقد يترجم ذلك في ساحات أقل اعتماداً على الحوار السياسي باللجوء إلى العنف والانقلابات، مثل ما شهدناه في عديد من الدول الأفريقية أخيراً، التي يعقبها وتبرر كثيراً بطروحات شعبوية.
والشعبوية السياسية تحمل في طياتها أخطاراً على الدولة الوطنية والترتيبات الإقليمية بما في ذلك بالشرق الأوسط وعلى النظام الدولي بأكمله، بترجيح الهوية العقائدية أو الطائفية والاستقطاب على الانتماء الوطني، وتتعارض مع منظومة الدولة الوطنية الجامعة لمواطنيها بمختلف فئاتهم وتوجهاتهم، وهي عمود النظام الدولي والترتيبات الإقليمية، مما سيؤدي إلى تفتيت الدول والمساس بسيادتها بضغوط من الداخل قبل الخارج، وإثارة حساسيات وتفاعلات إقليمية عابرة للحدود بل واهتزاز النظام الدولي بأكمله.
نحن في مرحلة حرجة من التغيير المجتمعي الوطني والإقليمي والدولي في آن واحد تفرض علينا الاهتمام بتجنب التهميش المجتمعي وطنياً أو إقليمياً أو دولياً، والابتعاد عن الشعبوية المخلة المسيئة والمضرة للجميع.
نقلا عن اندبندنت عربية