مصر والريادة الفكرية العربية – الحائط العربي
مصر والريادة الفكرية العربية

مصر والريادة الفكرية العربية



مصر التى يعرفها العرب والأفارقة والمسلمون هى مكان يصنع الإنسان، ويعيد صنعه مرات ليناسب عبقرية المكان، هى مكان يُمَصِّرُ الزمان، ويخضعه لتجليات سحره المتفجر فى طاقات الإنسان … مصر المصر (الإقليم) الوحيد فى الأرض الذى لا يحتاج إلى تعريف، فهى بؤرة الجاذبية الكونية التى كانت تهوى إليها قلوب، وعقول النابغين، والمتميزين من مجالها الحيوى، ومحيطها الجغرافى، تطير إليها جوانحهم لتتحقق ذواتهم، وتنضج مواهبهم، ويشع نورهم فى مجتمعاتهم وما وراءها. من قديم الزمان كان فى مصر مغناطيس يجذب البشر، أفاضل الناس، العلماء والأدباء والفنانون والتجار والصناع، الجميع يأتى إليها، وقد لا يعرف لماذا جاء، ولكنه يأتى فيتمصر، ويكون من بناة هذا البلد العجيب. مصر هذه كانت الى ما قبل أن يرفع الرئيس الراحل انور السادات شعار: مصر للمصريين, وهو شعار غريب على التكوين الجينى للشعب المصرى، وللدور المصرى فى الاقليم، فمصر للجميع، ومن الجميع، ومن أجل الجميع، يأتيها الإفريقى، أو الآسيوى ليدرس فى الأزهر الشريف فيعود مصرى الثقافة، والمزاج فى بلاده، ويأتيها الشاعر التونسى أو اللبنانى فيبدع فى تأليف شعرها العامى، وبيرم التونسى وفؤاد حداد رواد العامية المصرية لم يكونا مصريين، ويأتيها الفنان والموسيقى والمغنى فيتألق ويصير فنانا عربيا، بل إن الظهور على مسارحها هو جواز المرور للتألق والنجومية العربية. مصر هذه ستعود مع الجمهورية الجديدة، ولكن كيف؟ السبيل لعودة مصر لمكانها ومكانتها يكون من خلال أن تنفض عنها تركة نصف قرن من الانزواء عن المحيط خسرت فيه مصر رصيدا كبيرا فى مناطق كثيرة من العالم العربى وإفريقيا وآسيا، بل وجنوب اوروبا خصوصا دول البلقان. نصف قرن تم فيه التعامل مع العالم المحيط من منظور اقتصادى بحت، وتراجع مفهوم الدور، وآن الأوان أن يعود الآن مع هذه الانطلاقة العملاقة فى البنية التحتية، والمشروعات الاستراتيجية التى سوف تضع مصر فى موقع آخر غير ذلك الذى توارثته منذ عصر الانفتاح المشئوم فى سبعينيات القرن الماضى.

البداية ينبغى ان تكون بعودة الفكر العربى لمصر، وعودة المفكرين والكتاب والمثقفين للمحضن المصرى مثلما كان الحال فى تاريخها الطويل قبل أن يظهر شعار مصر للمصريين، وعودة الفكر العربى الى مصر تكون بطرق ثلاث هى:

اولا: احتضان المؤسسات الفكرية الرائدة فى العالم العربى خصوصا تلك التى تواجه صعوبات، وتحديات فى اماكن وجودها لأسباب غير سياسية، تتعلق بالتمويل أو البيئة الثقافية، أو الوضع الأمنى، ويأتى على رأس هذه المؤسسات العملاقة مركز دراسات الوحدة العربية الذى تأسس فى عام 1975 فى بيروت كمشروع فكرى متخصص فى قضايا الوحدة العربية, يسهم فى تعميق الوعى وتراكم المعرفة فى قضايا الأمة العربية والتحديات التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، الداخلية والخارجية، التى تواجهها وتحول دون نهضته، ليصبح اليوم أعرق مراكز الأبحاث العربية كمركز متخصص فى قضايا الأمة العربية. وقد أصدر المركز حتى الآن أكثر من 1200 كتاب، فضلاً عن أكثر من 517 عدداً من مجلته الشهرية المستقبل العربى، وعشرات الأعداد من المجلات الفصلية العلمية المتخصصة، كما نظم المركز عشرات الندوات والمؤتمرات حول قضايا الأمة العربية وعلاقاتها الإقليمية والدولية شارك فيها مفكرون وباحثون من جميع الدول العربية دون استثناء. وتركز أهداف المركز على العناصر الستة للمشروع النهضوى العربى، وهى: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطنى والقومى، والتجدد الحضارى. هذا المركز الرائد العملاق يواجه تحديات قد تقود الى إغلاقه. وهنا يأتى دور مصر للحفاظ على أكبر مؤسسة بحثية عربية كان النصيب الاكبر فى تأسيسها لمفكرين مصريين.

ثانيا: استقطاب المفكرين والباحثين العرب سواء الشباب أو الشيوخ للمشاركة بفعالية واسعة فى المؤسسات العلمية، والبحثية، والتعليمية المصرية، ابتداء من دور النشر الوطنية الكبرى التى تديرها مؤسسات تابعة للدولة، الى المؤسسات الثقافية، وحتى الجامعات المصرية التى ينبغى أن تفتح ابوابها لأساتذة زائرين من مختلف الدول العربية، وغير العربية، ولعل النشاطات التى تقوم بها مكتبة الاسكندرية، والتى تتضمن مشاركات لمفكرين وباحثين عرب جديرة بالتقدير والتقليد من قبل باقى المؤسسات الفكرية والثقافية المصرية.

ثالثا: إطلاق مشروعات فكرية وثقافية وفنية تحت رعاية الدولة المصرية تهدف الى القيام بالدور الريادى لمصر فى دوائرها الاستراتيجية الثلاث، خصوصا العربية والإفريقية فى المرحلة الأولى، ومن بين هذه المشروعات تأسيس بيوت خبرة Think-Tanks متخصصة تستقطب أفاضل الباحثين والعلماء من مختلف الدول العربية والإفريقية، وكذلك اطلاق مشروعات فنية عملاقة تستعيد الألق والابداع العربى، بما يواجه التحديات الثقافية الواردة الينا من العالم الغربى، والتى توشك ان تدمر المجتمعات وتفككها، إن لم نستطع بناء جهاز المناعة الثقافى عند الأجيال العربية القادمة.

مصر تستطيع – فى ظل قيادة عينها على المستقبل – أن تعزز ريادتها الفكرية والثقافية فى محيطها الجغرافى، ودوائرها الاستراتيجية، وكما تفتح ابوابها لإخوانها فى الأزمات والحروب، فمن باب أولى ان تظل الابواب مفتوحة فى اوقات الرخاء للمساهمة فى تحقيق الرخاء والازدهار والنهوض الحضارى لشعبها وللشعوب العربية والإفريقية على السواء.

نقلا عن الأهرام