بدأت المقالة السابقة بطرح فرضية مفادها أن مصادر التحول فى النظام العربى تنبع أساسًا من محيطه الإقليمى وإطاره العالمى، أما معطياته الذاتية فقد اتسمت عبر الزمن بثبات لافت، وبما أن الثبات يعنى الجمود فقد يقود إلى التدهور، ولكى أشرح فرضيتى ذكرت ٣ملامح انطوت عليها مسيرة النظام العربى، وهى ظاهرة الأزمات والنكسات الدورية التى تعرض لها وآليات التعافى منها، والثانى مبدأ تقديس السيادة الوطنية، والثالث ظاهرة الصراعات والخلافات المزمنة بين وحداته، وفصلت فى الملمح الأول منتهيًا إلى أن النظام العربى وإن تعافى من أزماته إلا أن مُدد إنجاز هذا التعافى قد زادت عبر الزمن وصولًا إلى الوضع الحالى، الذى لم يتم فيه هذا التعافى منذ الغزو الأمريكى للعراق حتى الآن لتشابك تداعياته مع تداعيات الانتفاضات الشعبية العربية فى مطلع العقد الماضى، واعتبرت الملمح الثانى مسئولًا عن فشل جميع محاولات التكامل فى النظام العربى أو على الأقل عدم فاعلية ما تحقق منها، وأستكمل اليوم بمناقشة ظاهرة الخلافات والصراعات البينية العربية، والواقع أن إقليمًا واحدًا من الأقاليم الفرعية للنظام العربى لم يخل من الصراعات والخلافات بين وحداته، ناهيك بالخلافات العابرة لحدود هذه الأقاليم الفرعية، ومن الحالات الشهيرة فى هذا الصدد عبر الزمن الحالات المغربية – الجزائرية، والسورية – العراقية، والعراقية – الكويتية، والسعودية – اليمنية، وتنوعت أسباب هذه الصراعات ما بين نزاعات حدودية، و/أو سياسية، و/أو اقتصادية، وكان النموذج العام لهذه الصراعات يشير إلى تهدئتها أو تسويتها عندما يتعرض النظام العربى لخطر خارجى، كما حدث بعد هزيمة ١٩٦٧عندما أُزيحت الصراعات العربية البينية للخلف لبلورة موقف عربى موحد ضد العدوان، لكن هذه الخاصية تراجعت للأسف منذ الغزو العراقى للكويت١٩٩٠لأن الخطر جاء من الداخل أصلًا، واختفت تمامًا مع الغزو الأمريكى للعراق ٢٠٠٣ سواء لتعمق الخلافات العربية أو للخلل فى موازين القوى مع المعتدى الأمريكى، وللأسف فإن النتيجة الوحيدة لهذا التطور هى غياب الموقف العربى الموحد فى قضايا النظام الكبرى، كما نرى الآن فى قضية فلسطين، فهل يعنى التحليل السابق أنه لا يوجد أى جديد إيجابى يحدث فى الوطن العربي؟ الإجابة بالنفى بالتأكيد، فهناك الجديد الإيجابى، ولكن على صعيد سياسات وإنجازات دول بعينها، وليس على صعيد أداء النظام ككل. أما على صعيد المتغيرات الإقليمية فيُلاحظ أن النموذج العام لعلاقة النظام العربى بالقوى الإقليمية الرئيسية المحيطة به (تركيا وإيران وإسرائيل) قد اتسم عبر الزمن بالتفاعلات الصراعية، أما إسرائيل فلمشروعها الاستعمارى فى فلسطين، وأما تركيا وإيران فقد كان هذا راجعًا فى مرحلة معينة لتبعيتهما للولايات المتحدة ومن ثم توظيفهما فى خدمة السياسة الأمريكية المناهضة للمشروع التحررى العربى، والمفارقة أن التغيرات الجذرية التى شهدتها هاتان الدولتان بنجاح الثورة الإيرانية ١٩٧٩ووصول حزب العدالة والتنمية للحكم فى تركيا٢٠٠٢ لم تُحدث فارقًا جذريًا فى نموذج العلاقة معهما، حيث أصبح لكل منهما مشروعه الإقليمى الخاص الذى اتجه أساسًا لوحدات النظام العربى، وترتبت على ذلك تفاعلات صراعية من نوع جديد كالحرب العراقية-الإيرانية (١٩٨٠-١٩٨٨)، والصدام بين مشروع ما يُسَمى الإسلام السياسى الذى رعته تركيا وبين عديد من الدول العربية خاصة بعد الانتفاضات الشعبية العربية، فى مطلع العقد الماضى، غير أن الملاحظ أن تطورات مهمة غيرت ولو جزئيًا من نموذج العلاقة بين النظام العربى والقوى الإقليمية الرئيسية المحيطة به، وقد بدأت هذه التطورات بإسرائيل مع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية ١٩٧٩، ثم اتفاقية أوسلو١٩٩٣مع منظمة التحرير الفلسطينية، والمعاهدة الأردنية-الإسرائيلية ١٩٩٤، وإذا كانت التطورات السابقة قد حدثت فى مقابل تنازلات قدمتها إسرائيل فإن التطورات الأخيرة فى علاقات دول عربية بإسرائيل منذ٢٠٢٠ لا علاقة لها بأى تنازلات إسرائيلية، وإنما هى تعكس تغيرًا فى إدراك النخب الحاكمة فى هذه الدول ورؤيتها لسياسة بلادها الخارجية، وبالنسبة لتركيا وإيران فقد وصل الصدام بينهما وبين دول عربية رئيسية بسبب مشروعيهما فى المنطقة إلى حد استخدام القوة مباشرة، و/أو بالوكالة فى التفاعلات بينهما وبين الدول العربية التى تعرضت للسياسات النابعة من هذين المشروعين، إلى أن وصلت الأمور إلى تغيرات متبادلة فى إدراك النخب الحاكمة التى استوعبت دروس الصدام ترتبت عليها عمليات تطبيع فى العلاقات قطعت أشواطًا مختلفة مع الدول العربية ذات الصلة، وإن لم تكتمل أو تشملها جميعًا بالضرورة، لكن الطابع التعاونى وجد طريقه إلى نموذج العلاقات دون شك. ومن المنطقى أن يكون لهذه التحولات التعاونية فى علاقة النظام العربى بمحيطه الإقليمى تداعيات إيجابية على هذا النظام، وأبسط ما يمكن توقعه أن تشمل هذه التداعيات حلحلة لبعض المشكلات العربية المستعصية التى تلعب قوى المحيط الإقليمى دورًا أساسيًا أو مهمًا فيها، لكن الأمر يحتاج لتروٍ وإمعان نظر، فعلى صعيد إسرائيل تحرص نخبتها الحاكمة على تأكيد أن هذه التحولات إيجابية بذاتها ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بتنازلات تقدمها فى القضية الفلسطينية، وعلى صعيد تركيا وإيران تجدر الملاحظة من الخبرات السابقة أن تسوية الصراعات التى تنخرط فيها هاتان القوتان بافتراض حسن النيات تتوقف أساسًا على حل التناقضات بين أطراف الصراعات المحليين، كذلك فمن الضرورى التفكير فى أن استمرار التقارب وتعزيزه مع قوى المحيط الإقليمى مع التفكك الراهن فى النظام العربى يهدِد باحتمال انشطار النظام العربى إلى مجموعات تتحلق كل منها حول إحدى القوى الإقليمية الثلاث، كما أن هذا التقارب يطرح أيضًا سيناريو بلورة نماذج جديدة وقوية للتفاعلات تابعنا بوادرها بين دول عربية رئيسية وبين قوى المحيط الإقليمى لن تكون فى مصلحة النظام العربى بالضرورة، وكلها احتمالات تقتضى التحسب والتدبر لها خاصة من منظور انعكاساتها على مصرنا الحبيبة.
نقلا عن الأهرام